دلالات التحول في الموقف الدولي تجاه "إسرائيل"
إذا كانت "إسرائيل" قد حظيت في الأسابيع الأولى من الحرب بـ"شرعية دولية"، فإن هذه الشرعية تآكلت، وتزايدت الضغوط الدولية، لكنها واصلت القتال – والآن يبدو أنها بقيت وحيدة في الساحة الدولية.
-
الموقف الدولي تجاه "إسرائيل"..
بعد نحو 600 يوم على اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، بدأت ملامح تحول دولي لافت تجاه "إسرائيل" عكسه بالأساس مواقف غالبية الدول الغربية ومنها أهم الدول الحليفة لـ "إسرائيل "، أبرزها بريطانيا، و فرنسا وكندا، التي هددت بفرض عقوبات عليها إذا استمرت الحرب على غزة، وفي بيان أصدره قادة الدول الثلاث أكدوا عزمهم على تبني إجراءات إذا لم توقف "إسرائيل" هجومها على غزة وترفع القيود عن المساعدات. كما وافق الاتحاد الأوروبي في اجتماعه الأخير على مراجعة اتفاقية الشراكة مع "إسرائيل ".
كما شهدت عواصم ومدن أوروبية تظاهرات جماهيرية واسعة ضمت مئات الآلاف من المتظاهرين في شوارع لندن وباريس وبرلين وروما ومدريد وستوكهولم وأمستردام وأثينا وكوبنهاغن وغيرها، تعبيراً عن التضامن العميق مع الشعب الفلسطيني، ورفضاً لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.
مواقف وخطوات دولية بارزة:
فرنسا: ستعقد مؤتمراً دولياً الشهر المقبل وستعلن فيه الاعتراف الرسمي والكامل بدولة فلسطين، وتحاول بالوسائل الدبلوماسية إقناع الدول الأوروبية بالانضمام إلى المؤتمر، وتلعب دورًا محوريًا في تشكيل ضغط دولي على "إسرائيل" لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في غزة وإنهاء الحصار وإدخال المساعدات.
وأعلن رئيس الوزراء الفرنسي أن بلاده تنوي الاعتراف بدولة فلسطين، وأنها ستعلن ذلك مع بريطانيا وكندا، معتبراً أن التحرك من أجل الاعتراف بدولة فلسطينية انطلق ولن يتوقف.
بريطانيا: ألغت مفاوضات اتفاق التجارة الحرة مع "إسرائيل"، وأوقفت صادرات أسلحة كانت مقررة لها، واستدعت السفيرة الإسرائيلية في لندن، تسيبي حوتوفيلي، للتوبيخ، وفرضت عقوبات على عدد من المستوطنين.
وتُعَدُّ بريطانيا من شركاء التجارة الأساسيين لـ"إسرائيل"، ويبلغ حجم التبادل التجاري معها نحو تسعة مليارات جنيه استرليني ، وهي رابع أكبر شريك تجاري لـ"إسرائيل ".
واعتبر وزير الخارجية البريطاني أنه لا يمكن الوقوف مكتوفي الأيدي أمام ممارسات "إسرائيل"، وإذا واصلت الأخيرة نهجها فسنتخذ خطوات أخرى، وأكد أن توسيع العملية العسكرية الإسرائيلية على غزة لا يمكن تبريره أخلاقيا وهذه ليست طريقة لإعادة الرهائن، مضيفاً أن " إسرائيل" تنتهك القانون الدولي ويجب البدء الفوري بتنفيذ الخطة الأممية لتسليم المساعدات لقطاع غزة.
هولندا: أعلنت أنها حظيت بدعم كافٍ من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لفتح نقاش حول إمكانية إلغاء اتفاق الشراكة مع "إسرائيل". وقد دعمت 17 دولة المبادرة الهولندية، وعارضتها 9 دول.
وزير الخارجية الهولندي اعتبر أن إعلان نتنياهو السماح بإدخال حد أدنى من المساعدات إلى غزة معيب وغير كافٍ.
إيطاليا : انضمت الحكومة اليمينية في إيطاليا إلى الأصوات الناقدة للحكومة الإسرائيلية، وقال وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني: "لا نريد رؤية الشعب الفلسطيني يعاني بعد الآن - كفى للهجمات، دعونا نتحرك نحو وقف لإطلاق النار، نُطلق سراح كل الرهائن، ونترك الغزيين بسلام ... يجب أن نقول للحكومة الإسرائيلية: كفى! حماس بدأت الحرب، أنتم رددتم، لكن الآن احموا سيادتكم وأمنكم ولننتقل إلى السلام".
إسبانيا: دعا رئيس الوزراء الإسباني إلى منع "إسرائيل" من المشاركة في الفعاليات الثقافية الدولية، مثل مسابقة اليوروفيجن، بسبب الحرب على غزة، على غرار استبعاد روسيا بعد الحرب مع أوكرانيا.
الولايات المتحدة: كشفت تسريبات إعلامية مختلفة عمّا وصفته بإحباط البيت الأبيض من الحكومة الإسرائيلية، وادعت أن "إسرائيل" هي الطرف الوحيد الذي لا يعمل على دفع صفقة شاملة"، وأن مقرّبين من الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتحدثون عن تحديد موعد لإنهاء الحرب على غزة، و سيطلب ترامب من "إسرائيل " في مرحلة معينة تحديد موعد لإنهاء الحرب وهو غير مستعد لاستمرارها إلى الأبد. كما أشارت تلك المصادر إلى أن ترامب يفكر
في دعوة نفتالي بينيت(المرشح الأبرز لرئاسة الحكومة الإسرائيلية في الانتخابات المقبلة) إلى زيارة البيت الأبيض، ما سيعكس مدى إحباط ترامب من نتنياهو. وأضافت المصادر أن مقربين من ترامب قالوا لـ"إسرائيل" سنتخلى عنكم إذا لم توقفوا الحرب، وأن ضغوط ترمب تزايدت مع تصعيد "إسرائيل" قصف غزة واقترابها من نقطة اللاعودة في الحرب،
وكان ترامب قد صرح في مناسبات مختلفة أنه يريد إنهاء الحرب في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية وإعادة "الرهائن".
إلى جانب التحول في المواقف والخطوات الدولية من الحلفاء الأكثر قرباً من "إسرائيل "، تبنت دول أوروبية متعاطفة تقليدياً مع الشعب الفلسطيني، مواقف أكثر حزماً تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، مثل أيرلندا والنرويج والسويد وغيرها، بيد أن الموقف الألماني المؤيد التقليدي لـ" إسرائيل " انتقد الأخيرة في عدم إدخال المساعدات وطالب بالتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة واستعادة "الرهائن" .
على الرغم من الأهمية الكبيرة للمواقف الدولية المتصاعدة ضد استمرار حرب الإبادة على غزة، الموقف الأميركي وتوجهات الرئيس ترامب هي ما يشغل بال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي سعى للتأثير على قرارات ترامب من خلال تنسيق المواقف مع رئيس الأمن القومي الأميركي المُقال، وغيره من المعروفين بتأييدهم المطلق لـ"إسرائيل" ، الأمر الذي أزعج ترامب الذي أكثر ما يثير غضبه هو محاولات التلاعب به، كما أنه على الرغم من دعم إدارة ترمب لـ " إسرائيل " فإن الفريق المحيط بترامب والقريب من أذنه يختلف في توجهاته عن الفريق السابق إبّان الولاية الأولى له، ويبدو أن الرؤية الاستراتيجية لترامب وفريقه المقرّب تركز على تجنب الحروب والصراعات العسكرية التي تستنزف الموارد الأميركية، وبدلاً من ذلك تسعى إدارة ترمب للهيمنة الاقتصادية وهي مستعدة لإشعال حروب تجارية واستجلاب استثمارات اقتصادية أكثر بكثير من استعدادها لخوض حروب عسكرية طويلة لا طائل منها، الأمر الذي لا تريد الحكومة الإسرائيلية أن تسلّم به على الرغم من إدراكها له.
ففي الوقت الذي يقوم فيه ترامب ببناء شراكات اقتصادية ضخمة مع دول الخليج، جلب منها ما يفوق الـ4 تريليونات دولار على شكل استثمارت لمصلحة الشركات الأميركية ، عوضاً عن الفوائد الشخصية له ولأبنائه ولشركاته وشركات حلفائه، فإن "إسرائيل" في نظر ترمب لا تزال غير قادرة على هزيمة المقاومة في غزة، وفيما يبدو أن صبر الرئيس الأميركي بدأ ينفد، وهو الذي أراد منذ البداية أن تكون "إسرائيل" جزءاً رئيسياً ومؤثراً في الشرق الأوسط ، ولكن عندما تأخّرت، تقدّم دونها ومن فوق رأسها، في ملفات مختلفة (إيران: مفاوضات الملف النووي من دون تنسيق مع الحكومة الإسرائيلية، اليمن: اتفاق وقف إطلاق النار بشكل فاجأ "إسرائيل" ولم يشمل وقف الهجمات اليمنية عليها، السعودية: اتفاقات عسكرية قد يكون من ضمنها ما تعترض عليه "إسرائيل " مثل إنشاء مفاعل نووي سعودي سلمي مع تخصيب اليورانيوم داخل السعودية من دون اتفافية تطبيع مع "إسرائيل "، سوريا: رفع العقوبات، تركيا: منحها نفوذاً خاصاً في سوريا .. ، فلسطين: حوار مباشر مع قيادة حماس أفضى إلى اتفاق ثنائي من دون علم "إسرائيل " بالإفراج عن الجندي الأميركي/الإسرائيلي عيدان إسكندر).
إذا كانت "إسرائيل" قد حظيت في الأسابيع الأولى من الحرب بـ"شرعية دولية"، فإن هذه الشرعية تآكلت بمرور الوقت، وتزايدت الضغوط الدولية عليها لوقف الحرب، لكنها واصلت القتال – والآن يبدو أنها بقيت وحيدة في الساحة الدولية، وفي حال استمرت فستتحول إلى دولة مارقة، وستجد نفسها أمام تسونامي عالمي سيتصاعد ضدها، وستصبح في أسوأ وضع على الإطلاق، منذ بداية الحرب على غزة بل وربما منذ نشأتها.
على الرغم من فشل المجتمع الدولي في وقف جرائم الإبادة الجماعية التي تمارسها "إسرائيل " في غزة منذ نحو سنة وثمانية أشهر، وعلى الرغم مما كشفته الحرب من انعدام للقيم والأخلاق والمثل الليبرالية التي تغنت بها الدول الغربية، فإن الصبر الفلسطيني يشبه المعجزة أمام آلة الإبادة والحرق والتمزيق الإسرائيلية، وقد بدأ صبر العالم على الحكومة الإسرائيلية يأخذ بالنفاد، فالرسائل الدبلوماسية من العواصم الغربية الحليفة تقليدياً مع "إسرائيل " تقول إن ما يجري ليس فقط ضد القانون الدولي، بل هو ضد مصالح "إسرائيل" نفسها، فالتحرك الدولي المتأخر كثيراً بدأ بفعل الصمود الفلسطيني الأسطوري بشقيه الشعبي والمقاوم، وبفعل الحرص الغربي والأميركي على المصالح الإسرائيلية الغائبة عن أعين الائتلاف اليميني الحاكم ، وكنتيجة للحرج التي غاصت فيه الأنظمة الغربية أمام شعوبها التي لم تعد تتحمّل مشاهد حرق وتمزيق الأطفال والنساء على الهواء مباشرة من دون أي تحرك من المجتمع الدولي.