ذئاب x ذئاب: ديمقراطية اللحّام والخروف!

قبل أحداث أيلول/سبتمبر 2001، كانت دوائر المخابرات الأميركية تخطط لغزو أفغانستان، وبعدها العراق وسوريا، وصولاً إلى إيران.

  • ما حصل في أفغانستان أخيراً يعطي مثالاً واضحاً على هذه السياسة المتبعة في كل الأرض
    ما حصل في أفغانستان أخيراً يعطي مثالاً واضحاً على هذه السياسة المتبعة في كل الأرض

"الديمقراطية هي ذئاب وخراف تصوّت على نوع العشاء"، بنيامين فرانكلين.

ما هو أقبح من السفيرة الأميركية في بيروت يتمثل بالقنوات والفضائيات التي تروّج لها ولسياستها، فالسفيرة الأميركية تؤدي واجباتها كموظفة تابعة للخارجية الأميركية، وتنفّذ الأوامر والإرشادات المطلوبة، وغالباً ما تكون في لبنان. وفي هذا الوقت بالذات، تعمل على إثارة الفوضى وتعميمها، ولا مانع لديها من استعمال الوسائل الدنيئة بأكملها للوصول إلى مبتغاها، والسفراء الأميركيون بشكل عام، وعلى مر التاريخ، متفنّنون بالتقاط اللحظة المناسبة وتطويعها وفق إرادتهم، فتارة هم راديكاليون إسلاميون حتى العظم مع الموالين الراديكاليين لهم إذا ما كان ذلك يناسب مصلحتهم، وتارة أخرى ديمقراطيون ضد اليسار للأهداف نفسها، والعكس.

قبل أحداث أيلول/سبتمبر 2001، كانت دوائر المخابرات الأميركية تخطط لغزو أفغانستان، وبعدها العراق وسوريا، وصولاً إلى إيران. هذا ما كشفه العديد من ضباط المخابرات الأميركية، وأكَّده المخرج الأميركي آرون روسو في مقابلته الشهيرة مع الصحافي أليكس جونز، والَّتي أكد فيها أنَّ المحامي نيك روكفيلر (سليل عائلة روكفيلر الشهيرة المسيطرة على بنوك نيويورك) أطلعه على هذا المخطط قبل أحداث أيلول/سبتمبر بـ11 شهراً من وقوعها. وبذريعة "محاربة الإرهاب"، غزت أميركا العالم لاجتثاث ما صنعته، فـ"صناعة الإرهاب" الأميركية أفضل ما أنتجته عقولهم من صناعة المركبات الفضائية وطائرات الشبح والتكنولوجيا وغيرها.

لقد صنعوا الإرهاب (القاعدة – بن لادن) في أفغانستان، وذهبوا لمحاربته، واحتلوا أفغانستان، وزعموا أن العراق (صدام حسين) يمتلك أسلحة بيولوجية، وذهبوا لاحتلاله، ومن ثم قاموا بالتحريض على النظام في سوريا، وجمعوا شذاذ الآفاق من كل حدب وصوب، وجلبوهم إلى سوريا عبر تركيا والأردن. من منّا لا يذكر صور السيناتور جون ماكين مع عناصر تنظيم "داعش"، واعترافات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، عندما أعلنت أن "داعش" صناعة أميركية، وأكد كلامها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب! ومن منا لا يذكر الضغوط التي مورست على رئيس الجمهورية اللبنانية وقيادة الجيش اللبناني لمنع مقاتلة التكفيريين في البقاع والجرود!

إنَّ سفراء أميركا في لبنان، ومنذ ما قبل العام 2005، يعملون بكامل طاقاتهم وطواقمهم وعملائهم ومريديهم لتأجيج الفتن وضرب استقرار البلد، وباعترافات مساعد وزير الخارجية الأسبق ديفيد هيل أمام أعضاء الكونغرس: "دفعنا 10 مليارات دولار في لبنان"، كان الهدف منها تقويض الاستقرار وإشعال الحروب. 

وما يجري في لبنان حالياً من قطع المواد الغذائية والأدوية والمازوت والبنزين وغيرها من مستلزمات العيش الضرورية يجري بتحريض واضح من السفيرة الأميركية ومجموعة من سفراء الدول التي تدور في الفلك الأميركي ومنظومة الفساد المتآمرة، من سياسيين واقتصاديين ورجال أعمال وإعلام، بل إنَّ المعلومات تشير إلى أنَّ تعطيل تشكيل الحكومة اللبنانية منذ أكثر من عام يأتي بضغط وتحريض من هذه الأدوات نفسها، والغاية منها تمرير الوقت للوصول إلى الانتخابات النيابية، وتغيير النتائج لمصلحة "المتأمركين"، وإيصال أكبر عدد من العاملين في الـ "NGO.s"تحت إشرافهم مباشرة، لتغيير التوازنات وفرض رؤساء يعملون معهم أو لمصلحتهم، وكل هذا خدمة للكيان الصهيوني وأهدافه.

ليس غريباً أن تواجَه العروض الروسيّة والصينيّة والإيرانيّة الاقتصاديّة بالرفض من قبل بعض السياسيين اللبنانيين، فهم شركاء أساسيون في "كارتيلات" اقتصادية متنوعة. هذه "الكارتيلات" موجودة لدى كلّ الطوائف، ومنها رجال دين استثمروا أموال أوقافهم معهم لزيادة أرباحهم، وبالتالي إن مواجهة هذه "الكارتيلات" واستئصالها دونها عقبات كثيرة، أقلها الحروب التي تسعى إليها "أميركا".

في فيلم دراميّ تاريخيّ ملحميّ أميركيّ (عصابات نيويورك) في العام 2002، من إخراج مارتن سكورسيزي وكتابة جاي كوكس وستيفن زيليان وكينيث لونيرجان، وهو مبني على قصة تدور وقائعها في العام 1863 عن كتاب هربرت أسبري في العام 1927، أراد هذا المخرج العبقري أن يشير إلى العقلية الأميركية التي تتحكم في مصير الشعوب الآن، كيف تكونت ونشأت، ومن خلال المشاهد الدموية الرهيبة التي ملأت الفيلم، عبر حوارات مليئة بالانتقام والتشفي وعدم الإنسانية التي تعكس الأسلوب الذي تكونت به نيويورك؛ فمن خلال العلاقة التي ربطت "اللحّام"، زعيم المافيا، مع عمدة المدينة، يظهر المخرج عملية إدارة الحكم والتناغم بين من يعملون في أجهزة الدولة ومن يسيطرون على الشارع، وكيفية إدارة العمليات الانتخابية والتلاعب بها والحصول على الأصوات بأيِّ ثمن، لإحكام السيطرة، ولو كلَّف ذلك "مذبحة".

لقد أراد سكورسيزي من خلال هذه المشاهد إعطاء صورة عن طبيعة ولادة الدولة الأميركية وكيف تدار أجهزتها، فمنشأ الدولة إجرامي دموي، والديمقراطية المزعومة تأتي من خلال التحالفات "الوسخة" بين المافيا ورجال الأعمال، والاستغلال القذر للطبقة الفقيرة وتجنيدها في الحروب المتنقلة، إن كان على مستوى الداخل الأميركي أو الخارج، فمشاهد التوابيت المليئة بالجثث، ومعظمها من الإيرلنديين المهاجرين؛ "وقود الحروب آنذاك"، والتي كانت تملأ الأرصفة، كانت صورة معبّرة عن طبيعة الإدارات الأميركية على مدى تاريخها، والتي لا تأبه لعدد الضحايا، مهما كان، فـ"المهم تحقيق المهمة"، والفاتورة على الضحايا المهاجرين.

هذه هي أميركا، وهذه هي ديمقراطيتها المزعومة. تريد للعالم أن يكون على شاكلة هذا "اللحّام" العديم الرحمة، بأن لا تأبه لموت الأطفال، ولا لتجويع الفقراء، ولا لسرقة أموال وأدوية وغذاء الناس، ناهيك بثروات الأرض والبحر.

وما حصل في أفغانستان أخيراً يعطي مثالاً واضحاً على هذه السياسة المتبعة في كل الأرض، فبعد احتلال تجاوز 20 عاماً، وكلف أموالاً وصلت إلى تريليون دولار (وبعض الأرقام تحدثت عن تريليوني دولار)، و2500 قتيل، وعشرات الآلاف من الجرحى من المارينز، و89 مليار دولار أنفقت على تجهيز الجيش الأفغاني المكون من 300 ألف عسكري (قدر بحث لجامعة براون في العام 2019 الخسائر في الأرواح بين الجيش الوطني والشرطة في أفغانستان بأكثر من 64100 عنصر منذ أكتوبر/تشرين الأول 2001، عندما بدأت الحرب. ووفقاً لبعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان (أوناما)، قُتل أو جُرح ما يقارب 111 ألف مدني منذ أن بدأت بتسجيل الخسائر المدنية بشكل منهجي في العام 2009).

وماذا كانت النتيجة؟ آلاف القتلى والجرحى، وأكثر من تريليوني دولار، وتدمير كامل لدولة. وفي النهاية، تبرم اتفاقاً مع حركة "طالبان"، وتسلّمها إدارة الحكم، وتترك حلفاءها من دون أيّ حماية. وتعدّ مشاهد الذل في مطار كابول لعشرات الآلاف من المواطنين والقياديين الأفغان شاهداً حياً على ذلك.

معظم السياسيين في لبنان يعلمون أنَّ الإدارة الأميركية تضع الفيتو تلو الفيتو على أيّ مشروع "تنموي" أو إصلاحي... يلبي حاجات الناس، ويأتي من الشرق، وهي التي تمنع اللاجئين السوريين من العودة إلى ديارهم، وتمنع وصول المساعدات، وتمنع الإصلاحات على كلّ المستويات، لكن للأسف، هؤلاء السياسيون مشاركون عن قصد أو غير قصد بتنفيذ الأجندة الصهيونية - الأميركية، فالعقلية نفسها، والتوجه نفسه، إلا أن الأساليب تختلف. إنها "ديمقراطية اللحّام والخاروف".