زيارة ماكرون في القاهرة: هل تفتح الطريق أمام دور أوروبي مختلف في الشرق الأوسط؟
ما بين ماكرون السياسي، وإعلام بلاده المتنكر له، ومسؤوليات تاريخية لا تُمحى بسهولة، يقف هذا السؤال مفتوحًا على احتمالات شتى، يتوقف تحققها — في جوهرها — على مدى استعداد أوروبا لكسر تبعيتها، والتفكير بعقلها لا بعين حليفها.
-
الإعلام الغربي حين يُبصر بعين واحدة.
لم يكن الغياب الإعلامي عن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للقاهرة مجرد صدفة مهنية أو زلّة تحريرية. بل بدا وكأن صمت بعض المنصات الغربية، وعلى رأسها الفرنسية، يعكس ارتباكًا في السردية لا يتوافق مع مشهد رئيسها وهو يقف على أرض العريش، متحدثًا بلغة إنسانية عن ضرورة إدخال المساعدات إلى غزة، ومثنيًا على جهود مصر في احتواء الأزمة.
وقد لفت أستاذ العلوم السياسية الدكتور مصطفى كامل السيد الانتباه إلى هذا التناقض الفجّ حين لاحظ أن القناة الخامسة الفرنسية — المعروفة بكونها مزيجًا من تغطيات أبرز القنوات المحلية — لم تأتِ على ذكر زيارة رئيس جمهوريتها لمصر، رغم ما حملته من دلالات سياسية ومواقف إنسانية. وعلّق متسائلًا عن "مدى الحب الذي تكنّه هذه القناة لإسرائيل"، وهو تساؤل مشروع في ظل ما يبدو أنه انحياز منهجي يغيب فيه التوازن المهني لمصلحة خطاب واحد.
في لحظةٍ مشبعة بالتناقضات، يبدو ماكرون أقرب إلى صوتٍ أوروبي يحاول أن يتجاوز جدار الصمت، بينما تتجاهله عدسات بلاده التي لطالما رفعت شعارات "الحرية والمساواة والأخوة"، لكنها اختارت أن تُبصر بعين واحدة حين يتعلق الأمر بفلسطين.
إن زيارة ماكرون لمصر، بما تحمله من تقارب رسمي ومصافحات دافئة وتصريحات تتعلق بالوضع الإنساني في غزة، تفتح الباب لطرح سؤال كبير: هل يمكن أن تؤسس هذه الزيارة لبداية دور أوروبي جديد — أو متجدد — بقيادة فرنسا، في محاولات حل أزمات المنطقة، وفي صدارتها القضية الفلسطينية؟
سؤال يستمد وجاهته لا من الحاضر وحده، بل من امتداده العميق في التاريخ، حين قادت فرنسا حملتها الشهيرة على مصر في نهاية القرن الثامن عشر، مصحوبة لا بالجند وحدهم، بل بعقول مستنيرة أنجزت "وصف مصر"، واكتشفت حجر رشيد، وأسهمت — من دون أن تقصد — في إعادة فك شيفرة حضارة وُلدت على ضفاف النيل.
الإعلام الغربي حين يُبصر بعين واحدة
تجاهل الإعلام الفرنسي، وعلى رأسه القناة الخامسة التي أشار إليها الدكتور مصطفى كامل السيد، زيارة رئيس بلاده الرسمية للقاهرة لم يكن مجرد تغافل عابر، بل هو مؤشر على منهجية راسخة في كثير من المنصات الغربية، تتعامل مع قضايا الشرق الأوسط — وعلى الأخص القضية الفلسطينية — بانتقائية فجّة. ففي الوقت الذي امتلأت فيه شاشات القنوات الفرنسية بأخبار تكرّس تجريم المقاومة وتبرئة آلة القتل الإسرائيلية، تجاهلت صوتًا صادرًا من قصر الإليزيه نفسه يدعو إلى إدخال المساعدات الإنسانية ويشيد بالدور المصري في تخفيف الكارثة.
ما يثير الانتباه هو أن التغطيات الفرنسية غالبًا ما تسعى إلى محو أي مشهد يُظهر مصر كدولة مستقرة، صاحبة مبادرة، لها موقع محوري في إدارة أزمات الإقليم. وكأن مشهد الشرق الأوسط، بالنسبة إلى هذا الإعلام، لا يكتمل إلا إذا ظل ممزقًا، متنازعًا، غارقًا في الفوضى. من هنا، قد نفهم لماذا تغيب زيارة مثل تلك عن النشرات، رغم أنها تحمل في مضمونها ما قد يؤسس لتحول في مواقف أو توازنات.
فهل هو الخوف من أي تقارب فرنسي-مصري يُعيد تشكيل بعض المعادلات في الإقليم؟ أم أن الصورة المرسومة للمنطقة في العقل الغربي يجب أن تظل محصورة بين الاحتلال والإرهاب، من دون فسحة للحديث عن دبلوماسية أو وساطة أو دور مستقل؟
ذاكرة الحملة و"وصف مصر"
ليس من المبالغة القول إن العلاقات المصرية-الفرنسية هي واحدة من أكثر العلاقات الأوروبية-الشرقية تداخلاً وتشابكًا. فمنذ نهاية القرن الثامن عشر، حين أبحر نابليون بونابرت بأسطوله نحو شواطئ الإسكندرية، لم تكن الحملة الفرنسية على مصر مجرد غزو عسكري، بل تجربة مركّبة جمعت بين المدافع والمطبعة، وبين الاحتلال والتنوير.
رافق الحملة جيش من العلماء والباحثين والمهندسين، فكانت النتيجة ولادة واحد من أعظم المشاريع المعرفية في تاريخ الاستشراق: "وصف مصر" — هذا العمل الموسوعي الذي سجّل بدقة مدهشة مظاهر الحياة في مصر، من نباتها وطيرها، إلى عمرانها وفنونها وعادات أهلها. ولعل الاكتشاف الأهم الذي مهّد لتفكيك ألغاز الحضارة المصرية القديمة كان حجر رشيد، الذي عُثر عليه في مدينة رشيد عام 1799، وحمل نقشًا بثلاث لغات مكّن العالم الفرنسي شامبليون لاحقًا من فك رموز الكتابة الهيروغليفية، ففتح بذلك بابًا واسعًا لفهم التاريخ المصري القديم الذي ظل عصيًّا قرونًا.
لقد حملت فرنسا إلى مصر سلاحين: البندقية والعقل. ورغم أن الاحتلال العسكري سرعان ما انتهى، فإن البصمة الثقافية والعلمية للحملة بقيت أثرًا لا يُمحى. وهنا تبرز المفارقة: فرنسا التي غزت مصر بالسلاح، أسهمت في الوقت ذاته، ولو بشكل غير مقصود، في إحياء ذاكرة مصر القديمة، وفي إعادة الاعتبار لإرثها الحضاري.
إن استدعاء هذا الفصل من التاريخ اليوم لا يهدف إلى تمجيد تجربة استعمارية، بقدر ما هو تذكير بأن العلاقة بين البلدين لم تكن أبدًا محصورة في المعاهدات أو التبادلات الرسمية، بل امتدت إلى ميادين العلم والثقافة والاكتشاف. وهي خلفية يجب عدم إغفالها عند التفكير في مستقبل العلاقة، أو في إمكانيات الدور الفرنسي في المنطقة.
هل تقود فرنسا دورًا أوروبيًا جديدًا في الشرق الأوسط؟
في ضوء الجمود الأميركي حيال القضايا العربية، والانحياز الفاضح لـ"إسرائيل" في الحرب المفتوحة على غزة، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في موقع أوروبا، وإمكانية أن ينهض بعض دولها، وعلى رأسها فرنسا، بدور سياسي أكثر توازنًا وإنصافًا. فهل تشكّل زيارة ماكرون لمصر — بما حملته من مؤشرات سياسية وإنسانية — بداية لهذا الدور؟
فرنسا لطالما أبدت نزعة نحو استقلال نسبي في مواقفها عن الحليف الأميركي، وعبّر رؤساؤها المتعاقبون، من شيراك إلى ماكرون، عن اختلافات في المقاربة تجاه الشرق الأوسط. لكنّ الفرق بين الخطاب والقدرة على التأثير ظلّ قائمًا، إذ إن الاتحاد الأوروبي ككتلة لا يزال مكبّلًا بمصالح متضاربة وعجز عن صياغة سياسة خارجية موحدة، خصوصًا في الملفات الحساسة كفلسطين وسوريا ولبنان.
ومع ذلك، فإن لفرنسا ميزتين قد تؤهلانها لأداء دور مختلف:
الإرث الثقافي والتاريخي في المنطقة، الذي يمنحها قاعدة تواصل حضاري أعمق من غيرها.
القدرة على المبادرة الفردية خارج إجماع الاتحاد الأوروبي، كما فعلت في محطات عديدة، من لبنان بعد انفجار المرفأ، إلى الجولات المتكررة في شمال أفريقيا.
في ضوء هذه العوامل، يُمكن النظر إلى زيارة ماكرون لمصر — وللعريش تحديدًا — كرسالة ضمنية بأن فرنسا ما تزال ترغب في أن يكون لها موقع في هندسة الحلول، لا الاكتفاء بصف المقاعد الخلفية للمتفرجين على المشهد الأميركي-الإسرائيلي.
لكنّ الطموح الفرنسي يصطدم بعقبات داخلية وخارجية، تبدأ من انقسام الرأي العام الفرنسي بين تيارات مؤيدة بلا تحفظ لـ"إسرائيل"، وأخرى تتضامن مع الفلسطينيين على خلفية إنسانية، ولا تنتهي عند الضغط الإسرائيلي-الأميركي المتواصل على كل مبادرة أوروبية مستقلة.
يبقى السؤال الكبير مطروحاً
هل يمكن أن تمثل زيارة ماكرون لمصر بداية تحول حقيقي في الموقف الفرنسي، ومن ثم الأوروبي، تجاه قضايا المنطقة؟
أم أنها ستبقى مجرد لفتة رمزية عابرة، تُسجَّل في أرشيف العلاقات العامة وتُنسى في زحام التوازنات الكبرى؟
ما بين ماكرون السياسي، وإعلام بلاده المتنكر له، ومسؤوليات تاريخية لا تُمحى بسهولة، يقف هذا السؤال مفتوحًا على احتمالات شتى، يتوقف تحققها — في جوهرها — على مدى استعداد أوروبا لكسر تبعيتها، والتفكير بعقلها لا بعين حليفها.
بين صمت الكاميرات وصوت التاريخ
في زمنٍ تتشابك فيه الحروب بالمصالح، وتضيع فيه الحقيقة تحت ركام السرديات المعلّبة، تظل المبادرات الجادة — وإن أتت من بعيد — بارقة أمل، مهما كانت ضئيلة. زيارة ماكرون لمصر ليست حدثًا عابرًا في أجندة دبلوماسية مكتظة، بل لحظة رمزية تستحق أن تُقرأ في سياقها الأوسع: بين إعلام يشيح بوجهه عن الحقائق، وشرق عربي أنهكته الأزمات لكنه ما زال يحتفظ بموقعه وثقله، وبين غربٍ يبحث عن دور بعدما أفرغته الهيمنة الأميركية من معناه.
فرنسا أمام مفترق طرق: إما أن تظل صوتًا باهتًا داخل جوقة أوروبية عاجزة، أو أن تستعيد شيئًا من إرثها التاريخي — لا بوصفها قوة استعمارية، بل كشريك حضاري قادر على بناء الجسور وتقديم رواية أخرى، أكثر توازنًا وإنصافًا.
ويبقى الشرق، كما كان دائمًا، مرآة لاختبار النوايا والمواقف.
فهل ستملك باريس الشجاعة الكافية للنظر فيه بعينين مفتوحتين؟