لماذا تريد "إسرائيل" إسكات الميادين؟

قد لا يزعج "إسرائيل" أن تخرج قنوات تبكي المجازر وتعزز روحية الانهزام والانكسار بقدر ما قد يؤلمها أن تكون قناة تتحدى وتقاوم، وترى وسط مساعي الدمار بذرة انتصار.

0:00
  • لماذا الميادين؟
    لماذا الميادين؟

يرى كثير من علماء التاريخ والاجتماع أن "السيرك"، بمن يَحويه من مهرجين وسحرة وألعاب مبهرة وحركات رياضية أو حيوانات غريبة - بدءاً بالألعاب الرومانية التي كان يشاهدها الإمبراطور وحشد كبير من المواطنين، وصولاً إلى المسابقات الرياضية - كل ما كان يراد منه هو إلهاء الجماهير، وتقديم مادة للترفيه والمتعة والقسوة فالتبلد، ثم التصفيق.

لعل ما قالته صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية اختصر المشهد عندما عنونت "في خضم معركة وجودية في معركتنا ضد حماس وحزب الله وإيران، الإسرائيليون كانوا في أمسّ الحاجة إلى شيء يحتفلون به، وقدّم إلينا أبطالنا الأولمبيون ذلك".

الشاهد من المدخل السابق أن إلهاء الجماهير عن الحقائق صنعة تاريخية ما زالت حية إلى يومنا هذا، أمّا أُولى مفارقات الزمن الحالي فأنه نادراً ما تظهر الحيوانات في "السيرك" المعاصر، بسبب تكاثر جمعيات الرفق بالحيوان، والتي خافت على معاملة الحيوانات غير الإنسانية في "السيرك"، ليتجلى التناقض الحقيقي في أن التبلد الشعوري يرتفع مؤشره عندما يصبح أبطال العرض بشراً حقيقيين!

لقد قدم الإعلام العرض الترفيهي للجماهير، فحَفِلَ التاريخ العسكري العالمي بقصص ووقائع كثيرة تشير إلى أهمية الإعلام. ويبدو فعلاً أن نصف المعارك التي تُخاض في العالم منذ قديم الأزل تقع في الإعلام. وعلى رغم أن شكل هذا الإعلام تغير مع الزمن، من المعلقات وأشعار الفخر والحماسة، مروراً بالمذياع والصحيفة والتلفزيون، وصولاً إلى وسائل «التواصل الاجتماعي»، فإن دور الإعلام في تعزيز وسائل المعركة ما زال قائماً. صحيح أن الإعلام ليس المعركة كلها، وإنما نصفها، لكنه قد يشكل أحد عوامل الانكسار أو الانتصار. وهذا دور أكبر من أن يتم تجاهله أو التقليل من شأنه. تعلم "إسرائيل" ذلك، بل تسشعره أيضاً، وتفرض معادلتها فيه.

في الحرب الحاليّة على قطاع غزة، لا تنحصر الإشكالية، التي طغت على أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية، في الرقابة العسكرية، بل تتعدّى ذلك إلى مساهمة وسائل الإعلام هذه في تشكيل ما وصفه الباحث الإعلامي الإسرائيلي، يزهار بئير، بـ"الوعي الزائف"، وهو أمر لا يقوم على الكذب فحسب، بل يمكن تحقيق النتائج أيضاً عن طريق حجب معلومات، وبواسطة تشجيع الجهل. وشغف الجهل هو أقوى شغف في حياة الشخص، وقد يزيد على شغفَي الحب والكراهية، كما قال المحلل النفسي والمنظّر الفرنسي، جاك لاكان.

ويلفت بئير إلى دراسة استقصائية أجرتها جامعة "فيرلي ديكنسون" في نيوجيرسي في الماضي، وتوصلت إلى نتيجة فحواها أن هناك أنباءً تجعل الناس يعرفون أقل. ووجدت أنه، بعد مشاهدة منهجية لقناة "فوكس نيوز"، كان مشاهدوها أقل معرفةً ودرايةً بالحقائق مقارنة بمجموعة اختبار لم يستهلك مشاركوها أي أخبار على الإطلاق. وبالتالي، فإن وسائل الإعلام لديها القدرة ليس فقط على تأطير الواقع وملء وعي المستهلكين بالمضمون والفهم، بل يمكنها أيضا اختراق عقولهم وإفراغها من المعلومات الموثوق بها، ومن الفهم السياسي الذي يحثّ على التفكّر والتبصّر.

وفي هذا الشأن كانت لوسائل الإعلام الإسرائيلية صولات وجولات لم تبدأ فقط في عهد حكم نتنياهو، فهو ليس البطل الوحيد لهذا النهج من العمى أو التعامي. ففي الرواية الإسرائيلية، تُمحى الضحية الفلسطينية في غزة وتُغيّب تماماً، حتى نجد أننا في رواية فيها قصف بلا ضحايا، وتمجيد للقوة الإسرائيلية العسكرية، وتجريد للسكان الفلسطينيين في قطاع غزة من إنسانيتهم، وتبرير للعنف ضدهم. فالغياب يجعل الضحية غير مرئية، ووصل مستوى التجريد من الإنسانية في "إسرائيل" إلى درجة التجاهل التام، وهذا يتيح استخدام القوة والعنف من دون مساءلة أو شعور بالذنب لدى الجهات الفاعلة.

لماذا الميادين؟

أولاً: كاد يصبح السياق الإسرائيلي هو الصورة الواحدة الوحيدة. لو قلة قليلة تكلمت فأسمعت، هكذا تعاملت الميادين مع الحرب الإعلامية كحرب حقيقية. لا هي ترف ولا أمر ثانوي يمكن الاهتمام به أو لا، بل كانت خياراً على محمل الجد وقدر المسؤولية، عندما فتحت هواءها منذ أشهر لصوت غزة وصورتها، وبادرت إلى أداء الأدوار الكفيلة بإخراجنا من دائرة الاستهداف إلى دائرة التحصين الواعي.

إن الحرب على غزة، في كثير من جوانبها ونتائجها، كانت عملا كاشفا للجميع، أظهرت لنا الجانب الذي تقف فيه كل دولة وقيادة وشعب وفرد. وأن تتخذ "إسرائيل" الميادين غريمةً لها، فهو فخر للميادين وعزة لها.

ثانياً: هناك نقطة أخرى لا بد من التوقف عندها من أجل فهم سبب الغضب الإسرائيلي من الميادين. يمكن أن نفهم الفكرة من التحليل الذي قدمه البروفسور في علم النفس السياسي، دانيئيل بار طال، بشأن تكريس القيادة السياسية الإسرائيلية، وقبلها الصهيونية، لشعور انعدام الأمن والخوف الدائم لدى اليهود الإسرائيليين، من أجل تشويه الوعي الإسرائيلي الجمعيّ. "إسرائيل"، إذاً، تقوم على فكرة إخافة شعبها وتخويفه من محيطها، بينما، للمفارقة، لا يقوم الخطاب المقاوم على تعزيز الخوف، بل على تأكيد الحق وتثبيت العزة. وهذه المعاني الإيجابية تُخيف "إسرائيل".

قد لا يزعج "إسرائيل" أن تخرج قنوات تبكي المجازر وتعزز روحية الانهزام والانكسار بقدر ما قد يؤلمها أن تكون قناة تتحدى وتقاوم، وترى وسط مساعي الدمار بذرة انتصار.

ثالثاً: هناك حقيقة يجب أن ننطلق منها اليوم في التعامل مع شخصية بنيامين نتنياهو. باختصار، هي أنه يريد الحرب ولا شيء غيرها. يريد حرباً شاملة، ذات سيناريو لا يتوقف ولا ينتهي إلا بانتهاء أحد طرفيها. نتنياهو، المنتشي بتصفيق الكونغرس الأميركي لإجرامه، يستمرّ، منذ أشهر، في إفراغ ما في جعبته واخراج أدوات جديدة من صندوقه، وشهيته مفتوحة إلى المزيد، إذ قام بالمجازر غير آبه، وينفّذ الاغتيالات غير مكترث. وهو بالتأكيد لم ينصت إلى ما تقوله سيما شاين، رئيسة قسم الأبحاث السابقة في "الموساد"، ومفاده إن "على إسرائيل أن تتبنّى سياسة أكثر تواضعًا تجاه إيران، الدولة الكبيرة التي يبلغ عدد سكانها 90 مليون نسمة (أكبر من ألمانيا)، وهي دولة ضخمة من حيث الحجم، لا ينبغي لإسرائيل التورّط في مواجهة معها". وتقترح شاين على كل رأس حامٍ في "إسرائيل" أن "يتذكّر حجمنا الحقيقي، فقليل من التواضع لن يضرّنا".

نتنياهو هذا فتح المواجهات على جميع الأصعدة وفي مختلف الاتجاهات.

رابعاَ: تقول "إسرائيل"، في روايتها: نحن نحدد لكم ماذا ترون؟ وماذا تسمعون، بل حتى ماذا تريدون وترغبون؟ وكيف تفكرون؟ ونحن نمسك أقلام التلوين لنرسم المشهد الذي نريده. السلطة الإسرائيلية تمتلك أيضاً قنوات اتصال وإعلام خاصة بها، من أجل بث وترويج معلومات تتلاءم مع الرواية التي ترغب في تكريسها، وتَمون على غيرها، أمراً أو طواعية. أما الميادين فكانت عصية عليها، بكادرها أولاً، وجمهورها ثانياً. 

تريد "إسرائيل" أن تقول إن شيفرات مفاتيح وقف الحرب أو إطلاق النار في يديها، وتريد صمّ الآذان بشأن رواية مغايرة، أو تعمية الأبصار عن الصورة الحقيقية. ربما يعتقد نتنياهو أنه يمتلك المفاتيح في يديه، لكن ما وراء الأبواب التي يفتحها، أو تلك التي يُغلقها، عوالم لا يملك منها شيئاً. فإغلاق العيون عن الكوارث، إجباراً أو إكراهاً أو تشتيتاً، لا يعني عدم حدوثها. وحدوثها يعني، بطبيعة الحال؛ يُقتل كل شيء إلا الحق.