غزة و"وهم" وقف الحرب.. أية مسؤوليات على "ثلاثيّ الوساطة" و"مجموعة الثماني"؟
الوقت في غزة من دم ودمار، وأخطر ما يواجه القطاع وأهله ومقاومته، هو تفشّي "وهم" وقف النار وانتهاء المجاعة، وتراجع مكانته على سلّم الأولويات الدولية، سيما مع انفجار أزمات جديدة في الإقليم.
-
"إسرائيل" لا تُخفي نيّتها إعادة إنتاج "نموذج لبنان" في غزة!
ثمّة مسؤولية سياسية وأخلاقية، دينية وقومية، تقع على كاهل الدول الثماني التي التقى قادتها وممثّلوها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في نيويورك في أيلول/سبتمبر الفائت، لاستنقاذ مبادرة وقف الحرب، وضمان انتقالها من مرحلة إلى أخرى من دون مماطلة وتفلّت إسرائيليّين، كما هو حاصل الآن، فلا يمكن لغزة أن تعيش "وهم" وقف الحرب والمجاعة، فيما مجريات الوضع القائم على الأرض، تشي بخلاف ذلك تماماً.
ولا يمكن بحال القبول أو التواطؤ مع فكرة أنّ حرب الإبادة قد توقّفت وأنّ التجويع لم يعد يستخدم سلاحاً ضدّ أهل غزة، لتطويعهم وتركيعهم، هذا ليس خياراً أبداً، سيما وأنه يسهم في احتواء طوفان الغضب الدولي ويرفع الحرج والضغوط القصوى عن حكومة اليمين الفاشي، ورعاتها في واشنطن... كلّ ما حصدته غزة حتى الآن، انخفاض عدّاد القتل من معدل 50-70 شهيداً يومياً إلى عشرة شهداء بالمعدل، وأضعاف أضعافهم من الجرحى والمصابين، أما المساعدات، فما زالت تدخل بـ "القطّارة"، دونما التفات لما ورد في الاتفاق المبرم، بشهادة دولية نادرة، وشراكة من ثماني دول وازنة، عربية وإسلامية.
قلنا من قبل على صفحات هذا الموقع، إنّ دأب "إسرائيل" تحويل "المؤقت" إلى "دائم"، وحذّرنا من سيناريو بقاء حال غزة هذا المنوال، ويبدو أنّ ما كنّا نحذّر منه، قد بات كابوساً يقضّ مضاجع المعذّبين في وطنهم، المشرّدين من بيوتهم المهدّمة إلى خيام البؤس والنزوح... هذا الحال، لا يمكن أن يستمرّ تحت أية حجّة أو ذريعة، وما أكثر حجج "إسرائيل" وذرائعها.
وحسناً فعلت أنقرة، إذ دعت وزراء خارجية مجموعة الثماني، إلى اجتماع تشاوري/استكمالي، فهذه الدول بخاصة، لديها مسؤوليات إضافية، ليس لكونها من أكثر الدول العربية والإسلامية وزناً وتأثيراً فحسب، بل ولأنها منحت مبادرة ترامب موافقتها وتأييدها، على الرغم من أنها بصيغتها النهائية، لم تأتِ تماماً كما أقرّها القادة الثمانية، بعد أن نجح نتنياهو ووزيره ديرمر في إدخال تعديلات جوهرية عليها... هذه المرّة، يتعيّن على الدول المذكورة، أن تكون أكثر حزماً في رعاية تنفيذ الاتفاق (على عجره وبجره)، بعد أن فوّتت فرصة استدراك "التعديلات الخبيثة" التي أدخلها نتنياهو عليه، وآثرت ابتلاع "الحرج"، على "افتعال" مشكلة مع سيّد البيت الأبيض، النزق والمتقلّب.
نحن لا ندري حتى الآن، ما إذا كان اجتماع أنقرة سيلتئم أم لا، فثمّة غموض ما زال يلفّ مواقف دول أعضاء، كما أننا لا نعرف ما الذي سيخرج به الاجتماع، وفي ظنّي أنّ لقاءات حاقان فيدان مع قادة حماس في تركيا مؤخّراً، قد وفّرت فرصة للحركة والمقاومة، لعرض وجهة نظرها، والإصرار على تفعيل ما كان ينظر إليه، كـ "شبكة أمان عربية إقليمية"، لغزة وأهلها وفلسطين والمقاومة.
وتزداد أهمية تفعيل "العامل العربي - الإسلامي"، بعد أن أعادت واشنطن تأكيد المؤكّد في علاقتها مع "تل أبيب"، فالرئيس ترامب، ومن دون أن يرفّ له جفن، أو يستيقظ له ضمير، أجاز لـ "إسرائيل" قتل أكثر من مئة فلسطيني في غزة، جُلُّهم، من المدنيين الأبرياء، نظير مقتل جندي إسرائيلي واحد في خان يونس، في عملية، أعلنت حماس والمقاومة، أنها غير مسؤولة عنها، وأنها ربما تكون حادثاً عملياتياً يحدث مثله في هذه الحالات، أو ربما من تدبير جهات لا تريد لوقف النار أن يشقّ طريقه، وتريد في الوقت ذاته، تحميل حماس والمقاومة، المسؤولية عن تعطيله.
"إسرائيل" لا تُخفي نيّتها، إعادة إنتاج "نموذج لبنان" في غزة، هم يتحدّثون عن ذلك علناً، وذلكم جزء من خطتهم لإدارة حروب "أقلّ كلفة"، ضدّ لبنان وغزة... المنافقون والكذّابون، في واشنطن وعواصم عربية ودولية، لا يثيرهم مسلسل الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، بل ولا يتردّدون في تقديم اتفاق وقف النار، بوصفه نموذجاً يتعيّن على لبنان أن يحتذي به، ويجهدون في إطلاق "سباق مسارات" بين الجانبين، الفلسطيني واللبناني، وحثّ كلا الطرفين، لأن يكون الأول في إنجاز صفقة استسلام مُذلّة، تُبقي لـ "إسرائيل" صورة من صور "النصر المطلق"، وتساعدها على فرضها نفوذها المهيمن على الشعبين.
لعبة قديمة - جديدة رأينا بعضاً من مفاعليها مع بدايات مسار "مدريد – أوسلو – وادي عربة"، وهم يعيدون إنتاجها بصورة دامية هذه الأيام، وبين بلدين ومقاومتين، ظلّتا خارج سرب الإجماع على "السلام خيار استراتيجي وحيد"، ما عنى من قبل، ويعني اليوم، استسلاماً لليمين الفاشي في "إسرائيل"، المدَعّم من يمين أميركي، مصنوع من القماشة ذاتها، لا يفصل بينهما سوى اختلاف المواقع وأحياناً زوايا النظر وتباين يطرأ بين حين وآخر، حول بعض الأولويات.
مداخل أربعة
ترامب استثمر في مبادرة تحمل اسمه، وبالنسبة لرجل مسكون بـ"الأنا المرضيّة"، يمكن اعتبار ذلك مدخلاً ملائماً لممارسة التأثير، وإجراء بعض المقايضات، وصورة الولايات المتحدة، كراعية للإبادة الجماعية والمجاعة، تضرّرت بفعل الحرب على غزة، بصورة لا تقلّ خطورة عن صورة "إسرائيل"، المرتكب المباشر لأبشع جريمة في القرن الحالي، وهذا مدخل ثانٍ يمكن لثلاثي الوساطة، وثماني الدول الراعية، أن يدخلا منه أيضاً إلى لعبة الضغط والتأثير... والمصالح الأميركية "الأعلى" لا تتطابق بالضرورة مع "أسفل" المصالح الإسرائيلية في غزة والضفة، وهذا مدخل ثالث، أما الأسلحة وأدوات النفوذ والضغط، المتوفّرة بكثرة لدى الجانب العربي - الإسلامي، فذلكم مدخل رابع، إن توفّرت الإرادة لتذخيرها واللجوء إليها، أو حتى التلويح بها.
ولكي لا يقال غداً، ما قيل بالأمس، عن أثر العامل العربي، في إطفاء الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، وفي حرب 1948، فإنّ أداءً مغايراً يتعيّن أن تضطلع به الدول ذات الصلة، بالذات العربية منها، وذلكم ليس بالأمر "الأخلاقي" أو "القيمي"، ذلكم عامل حاسم لصون استقرار الحكومات والأنظمة والحكّام، الذين يتعيّن عليهم دراسة أثر التواطؤ والخذلان في تلك المرحلة، في تشكيل التطوّرات التي وقعت في "نصف دزينة" من البلدان العربية، في العقد الأول للنكبة... ما يعني أنّ على الرسميين العرب، التفكّر فيما سيفعلونه، ليس من باب المناصرة لشعب شقيق وقضية عادلة فحسب، مع أنه واجب أخلاقي ووطني وقومي وديني وإنساني، بل من منظور أمنهم القومي واستقرار بلدانهم وبقاء أنظمتهم.
ترامب الذي أطلق حراكاً وولّد زخماً سياسياً ودبلوماسياً، قاد إلى تمرير مبادرته، ومنحها خاتماً دولياً في شرم الشيخ، لا بُدّ أنه مهتمّ، وله مصلحة سياسية وشخصية في إتمام تنفيذه... لكنّ ترامب نفسه، صاحب المبادرة الأكثر غموضاً وضبابيّة، لن يمانع أبداً في أن يأتي تنفيذ المبادرة، على إيقاع الحسابات الإسرائيلية، ووفقاً لـ "دفتر الشروط" الذي أعدّته حكومة نتنياهو، ما لم يجد من يلوّح له، ويضغط عليه، بـ "دفتر شروط" مقابل، يستجيب للحدّ الأدنى من مطالب غزة وأهلها ومقاومتها.
في سعيهم لإقناع حماس (أو الضغط عليها)، لقبول المبادرة الأميركية، تحدّث "مفاوضون عرب"، عن صعوبة في تغيير النصّ، متعهّدين بالعمل على جعله أكثر توازناً واتزاناً، عن الشروع في بلورة "الآليات التنفيذية" والبدء في ترجمتها... اليوم، هو التوقيت الأنسب، وربما الأخير، للعمل على هذه الآليات وضمان تنفيذها بقدر من "العدالة" بين الطرفين، وفقاً لتعهّد ترامب المعلن صوتاً وصورة.
ثمّة صراع محتدم على صياغة هذه "الآليات" وكيفيّة تنفيذها، واليد العليا حتى الآن، لـ "إسرائيل" كما يتضح من الانتهاكات والتعدّيات الجسام... وعلى الجانب العربي والإسلامي، أن يدخل فوراً، وأن يدخل بقوة، لإحباط المسعى الإسرائيلي، وضمان ألا تكون واشنطن، شريكاً متحمّساً في "إزاحة" الاتفاق عن سكّته، وهو يتعثّر في طريقه إلى حيّز التنفيذ.
المعركة ليست مستحيلة، ويمكن كسبها إن توفّرت الإرادة وآليات العمل الجماعي لثلاثي الوساطة ولجنة الثماني، ونقطة البدء في هذا المسار، تتجلّى في الامتناع عن "بيع الوهم"، فالحرب لم تضع أوزارها، واتفاق وقف النار مضروب بالكامل، و"إسرائيل" تتنصّل من التزاماتها، ويجب أن يقال ذلك بصوت جماعي، وأن يقال بقوة، وأن يأتي متزامناً مع جهود لإلزام واشنطن بترجمة ما تعهّدت به.
وثمّة مبادرات يجب أن ترى النور، ولا أعرف حتى الآن، لماذا لم يعلن عن تشكيل لجنة الإسناد المجتمعي، وأن تشرع ولو رمزياً، بأداء دورها، ولماذا لا يجري الضغط للإفراج عن مروان البرغوثي، ودعم ما ألمح إليه ترامب، مدّعياً أنّ القرار بصدده في جيبه وليس بيد نتنياهو.... ولماذا لا تبادر الدول المعنية، بإنجاز مشروع قرار إلى مجلس الأمن بشأن تشكيل وتفويض قوة الاستقرار الدولي، وضمان أن تكون قوة حفظ سلام، منتشرة على الخط الفاصل بين القطاع والأراضي المحتلة عام 48.... لماذا الجلوس على مقاعد الانتظار، على أمل أن تفرج واشنطن، عن أفكارها ومقترحاتها، مضبوطة على الإيقاع والتوقيت الإسرائيليين؟
الوقت في غزة من دم ودمار، وأخطر ما يواجه القطاع وأهله ومقاومته، هو تفشّي "وهم" وقف النار وانتهاء المجاعة، وتراجع مكانته على سلّم الأولويات الدولية، سيما مع انفجار أزمات جديدة في الإقليم، بدأت تسحب الأضواء بعيداً عن "مأساة العصر"... ذلكم ليس خياراً، وعلى الفلسطينيين وأصدقائهم، التنبّه لخطورة تحويل "المؤقت" إلى "دائم".