مفاوضات واشنطن ـ حماس: ما الذي تغير ولماذا الآن؟

محادثات الإدارة الأميركية مع حركة حماس تعني اعترافاً صريحاً وإدراكاً بأهمية دور حماس وتأثيرها في المعادلة السياسية والعسكرية الفلسطينية، وصعوبة تجاوزها.

0:00
  •  إدارة ترامب تريد إغلاق ملفات الحروب التي استنزفت الولايات المتحدة الأميركية.
    إدارة ترامب تريد إغلاق ملفات الحروب التي استنزفت الولايات المتحدة الأميركية.

إعلان مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب لقضايا الأسرى آدم بوهلر إجراءه محادثات مباشرة مع حركة حماس يعدّ خطوة غير مسبوقة تاريخياً، إذ لم يسبق للولايات المتحدة الأميركية أن أجرت محادثات مباشرة مع حركة حماس التي صنفتها عام 1997 منظمة إرهابية، وهذه المحادثات تشير إلى دلالات مهمة في المشهد السياسي.

سابقاً، كانت تزور وفود دبلوماسية غربية شتى قطاع غزة، وتطلب لقاءات سرية غير معلنة مع حركة حماس، وتشدد على عدم الإفصاح عنها في وسائل الإعلام، من بينها زيارات السفير الأميركي في مدينة القدس المحتلة الذي كان يطلب لقاءات غير معلنة مع شخصيات فلسطينية سياسية مستقلة أو مقربة من حركة حماس، وتحديداً من الكتّاب أصحاب الفكر والرأي للاستماع إليهم ومعرفة وجهة نظرهم في عديد من القضايا السياسية.

كنت أحد الذين حضروا أكثر من لقاء مع هذه الشخصيات والاستماع إليها والنقاش معها في كثير من القضايا السياسية التي كانت تطرح على الطاولة، وتمحور معظمها حول حركة حماس والمقاومة الفلسطينية وتأثيرها في معادلة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وسيناريوهات حلّ هذا الصراع.

أما أن يعلن الآن بشكل صريح وواضح عقد محادثات مباشرة لشخصيات أميركية رسمية مع حركة حماس في الدوحة، فهذه هي القضية المستجدة سياسياً الآن، وهذا ما يجعلنا نطرح تساؤلاً هاماً، ما الذي تغيّر ولماذا الآن؟ وما الذي أجبر واشنطن على الحديث المباشر مع حماس؟

الشيء المؤكد أن اللقاءات التي جرت أغضبت "إسرائيل"، وشكّلت لها صدمة وصفعة كبيرة من جهة، والتصريحات السابقة واللاحقة تؤكد ذلك، وضربة من العيار الثقيل لنتنياهو من جهة أخرى، وصلت إلى حد اتهام مسؤولين أميركيين "إسرائيل" بمحاولة إفشال الاتصالات الأميركية مع حماس، وفق ما كشفت عنه صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية.

محادثات الإدارة الأميركية مع حركة حماس تعني اعترافاً صريحاً وإدراكاً بأهمية دور حماس وتأثيرها في المعادلة السياسية والعسكرية الفلسطينية، وصعوبة تجاوزها، وينسف كل ادعاءاتها بإمكانية القضاء عليها ومنعها من أن تكون موجودة في قطاع غزة.

صحيح أن المفاوضات تركزت على قضية الأسرى حملة الجنسية الأميركية، لكنها عكست تحوّلاً في الموقف الأميركي عبر الإدارة الأميركية الجديدة تجاه حركة مقاومة أدرجتها سابقاً ضمن القوائم الإرهابية سنوات، وأكدت أن القوي يفرض نفسه على خصومه وأعدائه.

كثير من الإجابات عن التساؤل الأبرز وتداعيات هذه الخطوة وتوقيتها والدلالات التي أسجلها في هذا المقال تجاه المحادثات الأميركية مع حركة حماس، والتي تركزت على قضايا كبيرة تتعلق بالأسرى لدى حركة حماس في غزة، وبحث اتفاق أوسع لوقف الحرب وهدنة طويلة الأمد.

أولاً: تعدّ خطوة تاريخية باعتبارها محادثات مباشرة تحدث لأول مرة بين حركة حماس والإدارة الأميركية.

ثانياً: شكّلت الخطوة صفعة قوية لـ"إسرائيل"، ولنتنياهو على وجه الخصوص، وهو الذي تغنّى بالنصر المطلق، فيما شاهد العالم استعراض حماس قوتها خلال عمليات إطلاق سراح الأسرى والأسيرات الإسرائيليين في المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى، وهو ما شكل سؤالاً صعباً ومحرجاً لنتنياهو، ماذا كان يفعل "الجيش" الإسرائيلي في قطاع غزة على مدار أيام الحرب؟ وأين ما كنت تزعمه بنجاح "إسرائيل" في القضاء على حماس.

ثالثاً: مؤشر واضح أن الإدارة الأميركية الجديدة تختلف عن سابقتها، ولديها من القناعات المختلفة بعد فشل الحلول العسكرية، وهو سلوك عملي يشير إلى مقاربة أميركية حديثة مفادها أهمية الانتقال من مربع الخيار العسكري ضد حماس إلى تقديم لغة الحوار معها، وهذا ما سيبنى عليه من تغيير كثير من القناعات والمفاهيم التي كانت تروّجها "إسرائيل" وتشيطن بها حماس وجعلت أميركا والغرب ينظر إليها بل ويصنفها كمنظمة إرهابية لا حركة مقاومة تدافع عن حقوق مشروعة. 

رابعاً: خطوة لها مؤشر يعكس تراجع ثقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنتنياهو، وإدراكه أن استمرار لغة العنتريات لن يحل مشكلة كقضية الأسرى بعد أن بات واضحاً للعيان أنه يقدم مصالحه الشخصية السياسية على حساب مصالح الولايات المتحدة الأميركية، وإدراكه أن نتنياهو يعمل لتعطيل اتفاق وقف إطلاق النار وتعطيل صفقة تبادل الأسرى ليبقي حال الحرب خدمة لمصلحته الشخصية.

خامساً: إدراك الإدارة الأميركية أن نجاح هذه المحادثات ووقف الحرب في قطاع غزة يعدّ مصلحة أميركية بالدرجة الأولى يمكن استثمارها سياسياً في مشاريع الإدارة الأميركية التي يطمح لها الرئيس ترامب في منطقة الشرق الأوسط تحديداً، وهذا ما عبّر عنه بوهلر بشكل صريح حين قال: "واشنطن لا تعمل لصالح تل أبيب، أميركا لديها مصالح محددة، وقد تواصلت شخصياً مع حماس لنرى ما الحل الواقعي للإفراج عن الأسرى الأميركيين في غزة."

سادساً: من الواضح أن إدارة ترامب تريد إغلاق ملفات الحروب التي استنزفت الولايات المتحدة الأميركية سابقاً، فهناك تغيّر واضح في السياسة الأميركية في كثير من الاتجاهات عماده معالجة أخطاء الإدارة الأميركية السابقة التي كانت مستنزفة على مدار خمسة عشر شهراً في حرب غزة وقبلها في حرب أوكرانيا، إذ يعمل ترامب بإجراءات عملية تعزز موقعه تجاه إبرام صفقات سياسية واقتصادية جديدة يريدها في المنطقة على قاعدة تحقيق المصالح وإبعاد المفاسد.

سابعاً: محادثات ستدفع بشكل كبير مفاوضات المرحلة الثانية من صفقة تبادل الأسرى قدماً، وتبعث من خلالها واشنطن برسالة إلى نتنياهو أن إدارة ترامب ضد استئناف الحرب، وأن إفشال جولة المفاوضات يعني أن خيار التفاوض المباشر أصبح واقعاً ملموساً، ويمكن أن يكون الخيار البديل بما يحقق المصلحة الأميركية بالدرجة الأولى.

المحادثات الأميركية المباشرة مع حماس، وإن بدت خطوة صادمة للبعض وغير متوقعة، فإنها شهادة صامتة على أن صمود المقاومة في غزة وفشل القضاء عليها أعادا صوغ المشهد، وجعلا أميركا، أقوى اللاعبين في العالم، تطرق الأبواب التي توعّدتها يوماً ما.

أما تهديدات الرئيس الأميركي المتكررة تجاه حماس وقطاع غزة فهي ليست إلا أداة تفاوضية للضغط على المقاومة في غزة، بل وبتّ أرجّح بدرجة عالية أن يكون العام الجاري هو عام تحوّلات كبيرة في ظل الطرح الذي يتم الحديث عنه بشأن حلول شاملة وهدنة طويلة وفتح معركة سياسية بعد توقف المواجهة العسكرية مع "إسرائيل" في قطاع غزة، فمن الواضح أن حركة حماس باتت تتقن معادلة الجمع بين الثنائيات المتناقضة بحكمة وبراعة واقتدار بما يحقق مصلحة الشعب الفلسطيني.

تاريخياً، التاريخ يعيد نفسه فكما حدث قبل سنوات لحظة جلوس إدارة ترامب إلى طاولة التفاوض مع حركة طالبان المصنفة إرهابية تجلس اليوم إلى الطاولة نفسها مع حركة حماس، إذ إن المشهد بعد محادثات واشنطن وحماس ليس كما قبلها، فهو ليس مجرد لقاء لتحقيق مصالح فحسب، بل هو انعكاس عملي لصراع الإرادات، في وقت باتت تدرك حركة حماس أن البندقية لا تفاوض إلا من موقع القوة، وما نراه اليوم من أحداث دراماتيكية ليس إلا نتيجة تضحيات جسام قدمها الشهداء والقادة على طريق القدس، حيث لا ينتصر إلا من امتلك رواية الحقيقة ونفساً أطول وإرادة أشد، فمبدأ الجلوس إلى طاولة واحدة يعني الاعتراف، والاعتراف يعني بداية التراجع والإقرار بالحقوق الفلسطينية.