نتنياهو ولجان التحقيق: معركة داخلية بلا جبهات خارجية
السيناريوهات المستقبلية تؤكّد أنّ الصراع على تشكيل لجنة تحقيق رسمية مستقلة سيبقى محورياً في تحديد مستقبل حكومة نتنياهو، مع احتمال أن يؤدّي إلى تصعيد الأزمة السياسية بشكل غير قابل للعودة.
-
هل تهدف حرب غزة إلى إطالة عمر حكومة نتنياهو وتملّصه من المحاسبة؟
في مشهد دراماتيكي، أعلن رئيس الشاباك، رونين بار، عن نيّته تقديم استقالته في الـ 15 من حزيران/يونيو، قاذفاً بكرة اللهب إلى الساحة السياسية الملتهبة. لم يتبقَّ الآن سوى بنيامين نتنياهو، الذي يصرّ على التمسّك بالسلطة رافضاً تحمّل أيّ مسؤولية عن فشل السابع من أكتوبر. وهكذا يتضح أنّ المعركة المقبلة لم تعد مجرّد خلاف سياسي عابر، بل معركة وجودية بين نتنياهو ولجان التحقيق التي تلوح في الأفق كسيف مصلت فوق رأسه، وخاصة أنّ بار فضح إخفاقات نتنياهو أمام المحكمة العليا في عريضته غير المسبوقة.
منذ تأسيس "إسرائيل"، كانت لجان التحقيق الرسمية بمثابة زلازل سياسية تطيح بالزعامات في لحظات الانكسار الوطني. لم تكن هذه اللجان مجرّد أدوات بيروقراطية لتسجيل الأخطاء، بل محاكم تاريخية غيّرت مسار الحكومات وأعادت رسم حدود السلطة.
لجنة أغرانات، عقب صدمة حرب أكتوبر 1973، أطاحت بغولدا مائير رغم فوزها الانتخابي، مثبتة أنّ شرعيّة الصندوق لا تصمد أمام انهيار الثقة الوطنية.
لجنة كاهان، التي فُتحت على جرح مجازر صبرا وشاتيلا عام 1982، أجبرت أريئيل شارون، رجل "إسرائيل" الحديدي، على الركوع والتنحّي عن وزارة الحرب.
أما لجنة فينوغراد، التي تفجّرت بعد إخفاقات حرب لبنان الثانية عام 2006، فقد سحبت البساط من تحت قدمي إيهود أولمرت، مسرّعة سقوطه السياسي.
نتنياهو يدرك أنّ لجان التحقيق دائماً بداية لمعركة بقاء سياسية، حيث لا يْحسم مصيره ومصير حكومته فقط عبر صناديق الانتخابات، بل أيضاً في قاعات التحقيق. ومع اقتراب لحظة الحقيقة بعد فشل السابع من أكتوبر، يبقى السؤال: هل سيتمكّن نتنياهو من كسر هذه القاعدة، أم أنه سيواجه مصيراً مشابهاً لمصائر أسلافه الذين سقطوا نتيجة لجان التحقيق؟ وهل ينجو من محاسبة السابع من أكتوبر، أم أنّ الدولة العميقة ستفرض الحساب؟
المشهد الإسرائيلي يميّز بين ثلاثة أنماط من لجان التحقيق، تختلف في استقلاليتها وتأثيرها على مستقبل المسؤولين:
1. لجنة تحقيق رسمية: أعلى درجات التحقيق، تُشكّل بقرار حكومي وتقودها شخصيات قضائية مستقلة. تتمتع بصلاحيات استدعاء الشهود، الاطلاع على الوثائق السرية، وتحديد المسؤوليات السياسية والعسكرية. توصياتها قد تُسقط حكومات، كما حدث مع غولدا وشارون وأولمرت.
2. لجنة فحص حكومية: أداة أقلّ حدّة، تنشأ بقرار وزاري وتخضع لإشراف الحكومة. لا تملك قوة فرض المسؤوليات السياسية الكاملة، وغالباً ما تُستخدم لاحتواء الأزمات بدلاً من تفجيرها.
3. تحقيقات مراقب "الدولة": تحقّق في الأداء الإداري والمالي من دون سلطة قانونية لمحاسبة مباشرة، ولكنّ تقاريره تترك أثراً سياسياً عبر الضغط الشعبي والإعلامي.
التجربة الإسرائيلية أثبتت أنّ اللجان الرسمية، وحدها، تمتلك القدرة على مساءلة القيادة بمستوى قد يغيّر المشهد السياسي برمّته.
الكنيست، كهيئة تشريعية، لا يعدّ مجرّد مراقب للقرارات الحكومية، بل يؤدّي دوراً محورياً في عملية تشكيل لجان التحقيق الرسمية. رغم أنّ تشكيل لجنة تحقيق رسمية يتطلّب موافقة الحكومة، فإن الكنيست يمتلك حقّ المبادرة والضغط السياسي.
عندما يُطرح اقتراح تشكيل لجنة تحقيق، يمكن أن يبدأ من أحد أعضاء الكنيست أو من الحكومة نفسها، لكنّ القرار النهائي يتطلّب تصويتاً في الكنيست، حيث إذا حصل الاقتراح على أغلبية، يُمكن تشكيل اللجنة.
في هذه الحالة، يصبح الكنيست أداة سياسية تسهم في تشكيل المسار المستقبلي للتحقيقات، لكنها تواجه تحدّيات من الحكومة في حال كانت هناك مصالح سياسية متضاربة.
في السياق الراهن، فإنّ مطالب الكنيست بتشكيل لجنة تحقيق رسمية بعد السابع من أكتوبر تواجه مقاومة شديدة من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي يسعى لتفادي لجنة رسمية يمكن أن تؤدي إلى المساءلة السياسية المباشرة.
بعد الإخفاق الأمني في السابع من أكتوبر 2023، تصاعدت الدعوات لتشكيل لجنة تحقيق رسمية. لكن، بدلاً من قبول هذه الدعوات، سارع نتنياهو إلى دعم تحقيقات مراقب "الدولة"، إلى جانب التحقيقات الداخلية في "الجيش" والشاباك، بشرط أن لا تتجاوز هذه التحقيقات إلى فحص دور المستوى السياسي في الفشل الأمني.
إلا أنّ هرتسي هليفي، رئيس الأركان السابق، ورونين بار، رئيس جهاز الشاباك، خرجا عن النص وقرّرا منح صلاحيات تحقيقاتهما لفحص دور المستوى السياسي في فشل السابع من أكتوبر. هذا التوجّه أثار حفيظة نتنياهو، الذي اعتبر أنّ هذه التحقيقات ليست فقط محاولة لتحديد المسؤوليات الأمنية، بل كانت مؤامرة لتهديده وإجباره على تشكيل لجنة تحقيق رسمية.
نتنياهو، الذي يسيطر على ائتلاف حكومي قوي ويملك أغلبية في الكنيست، يعلم أن تشكيل لجنة تحقيق رسمية يتطلّب تصويتاً من الكنيست، وهو أمر قد يتسبّب في ضغوط سياسية تتجاوز قدرته على التحمّل. وبما أنّ اللجنة الرسمية قد تتسبّب في إلحاق ضرر سياسي كبير به، فقد أصبح يدير الأزمة بحذر شديد، محاولاً تجنّب تصعيد الضغوط التي قد تؤدي إلى إضعاف حكومته.
وفي هذا السياق، تعالت الأصوات في "إسرائيل" التي ترى أنّ حرب غزة قد تحوّلت إلى حرب سياسية تهدف إلى إطالة عمر حكومة نتنياهو وتملّصه من المحاسبة.
وبهذه الطريقة، يظهر دور الضغط الشعبي الذي ينادي بتشكيل لجنة تحقيق رسمية كعنصر حاسم. نتنياهو يدرك تماماً أنّ أيّ خطوة نحو تعزيز هذا الضغط قد تهدّد استقرار حكومته، ولذلك يسعى لاحتوائه عبر دعم التحقيقات المحدودة وتجنّب السماح بتشكيل لجنة رسمية قد تفتح الباب أمام محاسبات سياسية أوسع.
ورغم محاولاته المستمرة لتوجيه البوصلة نحو التحقيقات الإدارية وتحديد المسؤوليات في الأجهزة الأمنية، فإنّ رفضه تحمّل المسؤولية السياسية عن الفشل الأمني في السابع من أكتوبر يُعدّ دليلاً قاطعاً على خوفه من تداعيات تشكيل لجنة تحقيق رسمية. نتنياهو يدرك أنّ هذه اللجنة، إذا تمّ تشكيلها، قد تقوده إلى محاسبة سياسية قاسية قد تطيح به على غرار ما حدث مع أسلافه. وهذا يقوّي من مخاوفه من تكرار مصير غولدا مائير، أريئيل شارون، وإيهود أولمرت، الذين سقطوا نتيجة لجان تحقيق رسمية بعد فشلهم في حروب أو أزمات كبيرة.
في ضوء فشل السابع من أكتوبر 2023، يواجه بنيامين نتنياهو لحظة حاسمة في مسيرته السياسية، حيث يعكف على تأجيل المحاسبة أو التحكّم بها بعيداً عن تشكيل لجنة تحقيق رسمية مستقلة. رفضه المستمر لهذه اللجنة يكشف عن استراتيجية يسعى من خلالها إلى تجنّب المسؤولية السياسية في وقت حسّاس، مستخدماً حرب غزة كذريعة لتأجيل أيّ تحقيق رسمي إلى ما بعد الحرب.
أحد السيناريوهات المحتملة هو أنّ الضغوط الشعبية والبرلمانية ستؤدي في نهاية المطاف إلى تشكيل لجنة تحقيق رسمية، وهو ما قد يفضي إلى إضعاف حكومته أو حتى إلى إقالته في حال كشف التحقيق عن تقصير القيادة السياسية في إدارة الأزمة. في هذا السياق، رفضه المستمر قد يُنظر إليه على أنه تهرّب من المسؤولية، مما يفاقم من الأزمة السياسية.
أما السيناريو الآخر فهو أنّ نتنياهو يواصل نجاحه في التحكّم بمسار التحقيقات، سواء من خلال التحقيقات الداخلية في "الجيش" والشاباك أو عبر تحقيقات مراقب "الدولة"، مما قد يمكّنه من الاحتفاظ بالسلطة لفترة أطول. لكنّ هذه الاستراتيجية قد تُضعف من مشروعيته في نظر الرأي العام، خاصة إذا استمرّ التصعيد في الوضع الأمني من دون نتائج واضحة.
السيناريو الأكثر خطورة بالنسبة له هو أن تستمرّ الأزمة من دون وجود أيّ مسعى حقيقي لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، ما قد يؤدّي إلى تصاعد الاستياء الشعبي داخل وخارج الائتلاف الحكومي، ويعرّضه لتهديدات جدّية على استمراريته السياسية. في حالة تفجّر هذا السيناريو، قد يكون نتنياهو في خطر فقدان دعم الحكومة أو اضطرار إلى الاستقالة في ظلّ الضغط المتزايد.
في النهاية، على الرغم من أنّ نتنياهو يسعى لتأجيل المحاسبة أو التحكّم بها، فإنّ السيناريوهات المستقبلية تؤكّد أنّ الصراع على تشكيل لجنة تحقيق رسمية مستقلة سيبقى محورياً في تحديد مستقبل حكومته، مع احتمال أن يؤدّي إلى تصعيد الأزمة السياسية بشكل غير قابل للعودة.