لماذا لم يعد ملف الأسرى أولوية إسرائيلية؟
يكشف ملف الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة بعد "طوفان الأقصى" عن تحوّل عميق في السياسة العامة والشارع في "إسرائيل". ما الذي تغيّر؟
-
يكشف ملف الأسرى الإسرائيليين عن تحوّل عميق في السياسة العامة في "إسرائيل".
لطالما مثّل ملف الأسرى إحدى أكثر القضايا حساسية وقداسة في الوعي الجمعي الإسرائيلي. يستند هذا الاعتبار إلى مبدأ "فدية الأسرى" (Pidyon Shvuyim)، وهو مفهوم ديني يفرض على المجتمع و"الدولة" بذل كل ما يلزم لإعادة أي أسير، مهما كانت التكلفة.
وليس أدلّ على ذلك إلا التجارب السابقة في صفقات تبادل الأسرى:
في 23 تشرين الثاني/نوفمبر1983، تمت عملية تبادل، بين "إسرائيل" والفلسطينيين، أطلقت "إسرائيل" بموجبها جميع معتقلي معتقل أنصار، في الجنوب اللبناني، وعددهم 4700 فلسطيني ولبناني، إضافة إلى نحو 100 أسير من السجون الإسرائيلية، في مقابل إطلاق ستة جنود إسرائيليين من قوات الناحال الخاصة، كانت حركة "فتح" قد أسرتهم في منطقة بحمدون في لبنان، بتاريخ 4 أيلول/ سبتمبر 1982(مركز الدراسات الفلسطينية).
في 20 أيار/مايو1985، جرت عملية تبادل أخرى بين "إسرائيل" والجبهة الشعبية -القيادة العامة- سميت "عملية الجليل"، أطلقت "إسرائيل" بموجبها 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها. في مقابل ذلك، أطلق الفلسطينيون ثلاثة جنود إسرائيليين. (مركز الدراسات الفلسطينية).
على مدى عقود، شكّلت عائلات الأسرى قوة ضغط لا يُستهان بها. نجحت في تحريك الرأي العام وتطويع الحكومات، فدفعت إلى إبرام صفقات تبادل وُصفت دائماً بأنها "باهظة الثمن". غير أنّ المشهد تغيّر جذرياً بعد عملية "طوفان الأقصى": ورغم ضخامة التظاهرات التي تقودها عائلات المحتجزين، بدا تأثيرها على حكومة بنيامين نتنياهو محدوداً إلى حد العجز عن فرض صفقة شاملة.
شاليط... المعيار والسابقة
تُعد قضية الجندي جلعاد شاليط، الذي أسرته حركة حماس في عام 2006، نقطة مرجعية حاسمة لفهم الديناميكيات الحالية.
على مدار أكثر من خمس سنوات من أسره، قادت عائلته حملة شعبية وإعلامية واسعة ومستمرة، تمكنت من تحويل قضية جندي واحد إلى قضية وطنية بامتياز. كان أبرز محطات هذا الحراك مسيرة العائلة إلى القدس والاعتصام المفتوح أمام مقر إقامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في عام 2010. كان هذا الحراك يتميز بتوحيده للشارع الإسرائيلي، حيث التفّت غالبية فئات المجتمع الاستيطاني حول هدف واحد وواضح: إعادة شاليط سالماً مهما كان الثمن.
وفي مواجهة ضغوط الشارع، غلب صوت العائلة على خطاب اليمين المتطرف الداعي إلى حل عسكري بهدف استعادته.
بلغ هذا الضغط ذروته في عام 2011، عندما أُبرمت صفقة تبادل "وفاء الأحرار"، التي أفرجت إسرائيل بموجبها عن 1027 أسيراً فلسطينياً، من بينهم قيادات بارزة مثل الشهيد يحيى السنوار "مهندس عملية طوفان الأقصى"، مقابل الجندي شاليط. أثارت هذه الصفقة جدلاً واسعاً داخل الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية، حيث اتُهم نتنياهو بتقديم "تنازلات غير مسبوقة" ودفع "الثمن الأعلى". أصبحت هذه الصفقة بمنزلة "ثمن باهظ تخشى إسرائيل تكراره". وعلى إثر الانتقادات أعادت "إسرائيل" اعتقال العشرات من المفرج عنهم في وقت لاحق.
هذه التجربة المريرة بالنسبة إلى "إسرائيل" بشكل عام ولنتنياهو بشكل خاص، أدت إلى استنتاج داخل الدوائر الأمنية والسياسية الإسرائيلية، أن التنازلات الكبيرة في صفقات التبادل قد تشكل خطورة مستقبلية.
وهكذا، كانت الخلاصة أن نجاح حراك عائلة شاليط في الماضي أفرز "درساً سلبياً" للحكومة الحالية، وهو ما يفسر جزئياً رفضها لأي ضغط مماثل اليوم. لم يعد الأمر يتعلق بمجرد قيمة الجندي الإسرائيلي، بل بالتبعات الاستراتيجية لعملية التفاوض نفسها.
ائتلاف "النصر المطلق"
الفارق الأبرز اليوم يكمن في تركيبة الحكومة الإسرائيلية ذاتها. فحكومة نتنياهو الحالية هي الأكثر يمينية وتطرّفاً في تاريخ "إسرائيل"، وتعتمد على أحزاب مثل "الصهيونية الدينية" و"عوتسما يهوديت"، اللذين يرفضان علناً أي صفقة تبادل. وزراء كإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش يرون أن إطلاق الأسرى الفلسطينيين ضعف يخدم حماس، ويصرّون على مواصلة الحرب حتى تحقيق ما يسمونه "النصر المطلق".
هذا الخطاب لا يترك لنتنياهو هامشاً واسعاً. فإبرام صفقة كبرى قد يعني انهيار ائتلافه وانكشاف إخفاقاته في السابع من أكتوبر. من هنا، يصبح الرهائن بالنسبة إليه ورقة سياسية داخلية أكثر من كونهم قضية إنسانية. المفاوضات بالنسبة إليه مجرد "تكتيك" يوفّر غطاءً لمواصلة الحرب، لا مساراً جدياً لإنهائها.
رأي عام منقسم
على عكس الإجماع الذي ساد قضية شاليط، تشهد "إسرائيل" اليوم حالة من التشرذم المجتمعي التي تمنع حراك عائلات المحتجزين من تحقيق التأثير نفسه. كان الشارع الإسرائيلي يعاني بالفعل انقسامات حادة بسبب أزمة التعديلات القضائية قبل الحرب. وقد استغلت الحكومة الحالية هذه الانقسامات لتهميش حراك العائلات.
تظهر استطلاعات الرأي تضارباً واضحاً في أولويات الإسرائيليين:
• دعم الصفقة: 73% من الإسرائيليين يدعمون صفقة تبادل الأسرى، بحسب صحيفة معاريف. (كانون الثاني 2025)
• استمرار الحرب: 57% يرون ضرورة الاستمرار في الحرب حتى يتم التوصل إلى صفقة بحسب صحيفة معاريف نفسها. (آذار 2025)
هذا التناقض يعني أن الدعم للصفقة ليس مطلقاً، بل مشروطاً بـ "النصر"، وهو ما تستغله الحكومة للتقليل من شأن الحراك. علاوة على ذلك، استخدمت الحكومة وشركاؤها خطاباً "تخوينياً" ضد عائلات المحتجزين والمتظاهرين. حيث وصف وزير الأمن إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش التظاهرات بأنها "ضعف" و"تخدم حماس" و"تؤخر عودة المختطفين".
هذا الخطاب أدى إلى عزل الحراك عن قطاعات واسعة من المجتمع ووضعه في خانة "المعارضة"، ما حرمه القوة الرمزية التي كان يمتلكها في الماضي. على الرغم من ضخامة التظاهرات، فإنها لا ترقى إلى مستوى الإجماع الذي ساد فترات سابقة.
في المحصلة، يكشف ملف الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة بعد "طوفان الأقصى" عن تحوّل عميق في السياسة العامة والشارع في "إسرائيل".
لم يعد الضغط الشعبي كافياً لإنتاج صفقة تبادل. الأمر يتطلب إمّا تغيّراً في تركيبة الحكومة أو انهيار خطاب "النصر المطلق" أمام حقائق الميدان. وبينما تزداد مؤشرات السخط الشعبي على نتنياهو، لم تتحول هذه المشاعر بعد إلى قوة سياسية قادرة على قلب الموازين.