"إسرائيل" في غزة: عبث الحرب واستنزاف الشرعية

هل فعلاً استخدام "إسرائيل" للمناورة البرية بكثافة في حربها الراهنة على غزة سيُعيد بناء ردعها؟ أم أن هذه المناورة، في ظل الواقع السياسي الحالي، قد تجرّ "إسرائيل" إلى مأزق استراتيجي وأخلاقي أعمق؟

0:00
  • فشل
    فشل "إسرائيل" في استعادة الردع يكشف تصدعًا عميقًا في سرديتها.

في دراسة صدرت مؤخرًا عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، يسلّط الدكتور آلي ليبرمان الضوء على الإخفاق الاستراتيجي الذي مُنيت به "إسرائيل" في 7 أكتوبر 2023، حين فشلت مجددًا في ردع حماس رغم اعتمادها لعقود على استراتيجية "الردع التراكمي" أو ما يُعرف بـ"جز العشب". تُرجع الدراسة هذا الفشل إلى اعتماد "إسرائيل" على قدرات دفاعية وتكنولوجية فائقة، مثل القبة الحديدية والجدار الذكي، بدلًا من القيام بمناورات برية حاسمة، وهو ما أضعف مصداقية تهديداتها، وسمح لحماس بتحديها بطريقة مفاجئة وصادمة.

يذهب ليبرمان إلى أن الردع لا يتحقق فقط بالقدرة، بل بالمصداقية والعزيمة، وأن هذه المصداقية لا تُبنى إلا من خلال انتصارات عسكرية حاسمة على الأرض، ومن هنا، تطرح الدراسة مسارًا بديلًا يعتمد على المناورة البرية القوية كأداة لاستعادة الردع وتغيير المعادلة.

لكن هنا يُطرح سؤال جوهري: هل فعلاً استخدام "إسرائيل" للمناورة البرية بكثافة في حربها الراهنة على غزة سيُعيد بناء ردعها؟ أم أن هذه المناورة، في ظل الواقع السياسي الحالي، قد تجرّ "إسرائيل" إلى مأزق استراتيجي وأخلاقي أعمق يُهدد شرعية وجودها؟

لجأت القيادة الإسرائيلية إلى المناورة البرية في غزة بعد السابع من أكتوبر، محاولةً استعادة هيبة الردع عبر الحسم الميداني من خلال التدمير الشامل. صحيح أن هذه الحرب أضعفت حماس ودمرت قدراتها العسكرية إلى حد كبير، وعملت على تهشيم البنية الإنسانية والجغرافية لقطاع غزة،

لكن في ظل بنية الحكومة الإسرائيلية الراهنة، وسيطرة اليمين الديني المتطرف على صنع القرار، وأحلامه في استيطان غزة واحتلالها الكامل، تتحول المناورة البرية من أداة ردعية إلى مشروع توسعي، يفرغها من مضمونها الأصلي ويحوّلها إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، ليست بالضرورة عسكرية تقليدية، بل أكثر شبهاً بانتفاضة 1987، لكن بأدوات أكثر تطورًا: الهواتف الذكية بدلاً من الحجارة، ومنصات التواصل بدلاً من البيانات المطبوعة، ورأي عام عالمي واعٍ وغاضب، وفلسطيني يخوض معركة وجوده وبقاء قضيته.

وفي ظل ضغوط يمينية متزايدة تدفع نحو احتلال لا يمكن حمايته سياسيًا أو أخلاقيًا، يطرح هذا التيار خيار تهجير سكان غزة بالكامل، كحلّ لتفادي استمرار الاستنزاف. لكن هل يمكن لـ"إسرائيل" في ظل التسونامي الدولي غير المسبوق ضدها، أن تنجح في هذا التهجير؟ وهل هذا الخيار عملي وقابل للتنفيذ، خاصة في مواجهة الرفض الدولي والعربي، رغم ترويج رئيس الموساد ديفيد بارنيع عن استعداد دول مثل ليبيا وإثيوبيا وإندونيسيا لاستقبال المهجرين الغزيين؟

في حقيقة الأمر، فإن المناورة البرية في غزة – خلافًا للنماذج السابقة كحرب 1956 أو عملية السور الواقي عام 2002 – تجري في سياق سياسي وإعلامي ومعنوي مختلف تمامًا. القيادة اليمينية الدينية ترى في غزة "أرض ميعاد"، وليس فقط تهديدًا أمنيًا، ما يجعل من الحرب حرب استعمار جديدة وليست حرب ردع.

هذا الواقع الجديد يكرّس تحوّل الحرب إلى استنزاف طويل الأمد قد لا يتمثل فقط في المواجهات العسكرية، بل في نضال شعبي واستنزاف معنوي وسياسي على الصعيدين المحلي والدولي، ما يفتح المجال لتقويض سردية شرعية الوجود الإسرائيلي.

ففي الوقت الذي تعتقد فيه "إسرائيل" أنها تخوض حربًا وجودية لإعادة بناء ردعها بالتدمير الشامل والتهجير، فإنها في الواقع تخسر شرعية وجودها على الساحتين الإقليمية والدولية. تمامًا كما نقلت انتفاضة الحجارة عام 1987 الصورة الفلسطينية من "إرهابي" إلى "مناضل عاري الصدر"، فإن نضال الفلسطينيين اليوم تحت القصف والجوع والإزاحة ينتج أعمق عملية تقويض للسردية الصهيونية منذ قيام الكيان. وكما حذر الجنرال "عاموس يدلين"رئيس الاستخبارات العسكرية الأسبق، أن "استمرار الحكومة الإسرائيلية في التمسك باستراتيجية النصر المطلق في غزة سيؤدي إلى 7 أكتوبر سياسي دبلوماسي أضراره ستظل لعشرات السنين المقبلة".

الكيان الذي قدم نفسه كـ"واحة ديمقراطية" غربية في قلب بربرية الشرق الأوسط، يُكشف اليوم كمشروع إبادة ممنهج. الجيش الذي يدّعي كونه "الأكثر أخلاقية" في العالم يُظهر وجهه الحقيقي كآلة قمع غاشمة. والدولة التي بنت سرديتها على النجاة من المحرقة النازية والمظلومية التاريخية تمارس المحرقة ذاتها والتطهير العرقي الممنهج على شعب محاصر ومجوع.

إن فشل "إسرائيل" في استعادة الردع لا يعني فقط خللاً في أدواتها العسكرية، بل يكشف تصدعًا عميقًا في سرديتها المؤسسة وفي قدرتها على إقناع العالم بعدالة وجودها وشرعيته. ومع تصاعد نضال الفلسطينيين في زمن الإعلام الرقمي وتحوّل الرأي العام العالمي، تبرز الحاجة إلى حل جذري لا أمني، ينطلق من الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وإنهاء الاحتلال كأصل للأزمة، لا كعارض من أعراضها.

نحن أمام لحظة تاريخية لا تعيد فقط تعريف الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل تعيد صياغة الوعي الدولي الشعبي والرسمي بحقيقة جذور القضية الفلسطينية، وتجبره على تقديم حلول عادلة لها.