مصر.. الهدية الكبرى

من ظنّ أنَّ تكبيل مصر بكامب ديفيد كان كافياً لإخراجها من دائرة الخطر، فإنه لم يقرأ حروب الأفيون في الصين والأقرب حرب الجزائر.

  • مصر.. الهدية الكبرى
    مصر.. الهدية الكبرى

غداة احتلال العراق في العام 2003، صدرت إحدى أهم الصحف الإسرائيلية بعنوان "اليوم العراق، وغداً السعودية، أما مصر، فهديتنا الكبرى". ورغم أن هذا العنوان لم يذكر سوريا وليبيا واليمن إلا عرضاً في المتن، فقد كان يجسّد بوضوح نظرية خطي "الماكرو دول" و"الميكرو دول" في العالم العربي. 

لقد بدا واضحاً منذ حرب أكتوبر (أياً تكون خلفياتها المضمرة) أن بقاء أيّ دولة من الدول العربية التي تمتلك عناصر السيادة الأربعة يشكّل خطراً مستقبلياً على الكيان العبري، ومن ورائه مشاريع الهيمنة، إن لم يكن حاضراً فمستقبلاً.

عناصر السيادة علمياً وواقعياً هي الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ والثروات. في حال فقدت دولة ما إحدى هذه العناصر، فإنها تظلّ عرجاء، فكيف إذا افتقدت أكثر من واحدة!؟ أما النظام السياسي ومواقفه، فهو عامل متغيّر لا يشكل أية ضمانة، وخصوصاً في دول شابة وعجوز؛ عجوز غارقة في مخزونها التاريخي، وغالباً الثوري النضالي، وشابة في مكوناتها السكانية. وعليه، من ظنّ أنَّ تكبيل مصر بكامب ديفيد كان كافياً لإخراجها من دائرة الخطر، فإنه لم يقرأ حروب الأفيون في الصين، والأقرب حرب الجزائر.

تم ضرب "الماكرو" دول واحدة واحدة، وكلّ منها بطريقة. ولا يقولنّ أحد إن السعودية لم يصبها الدور، فما توريطها في حرب اليمن إلا ضرب كرتين إحداهما بالأخرى لتتكسّرا، وما اختيار محمد بن سلمان الشاب المتهور العديم الخبرة (والذي أعد لدوره ولكي يكون أذناً للابن الروحي لنتنياهو) إلا حلقة في إطار ذلك. 

وقد تخيَّلت السعودية أنها بفتح خزائنها لرئيس واشنطن، وبفتح مستقبلها على مشروع "نيوم"، ستنجو من المقصلة. قبلها، تخيَّلت مصر السادات أنها بخضوعها لمعسكر ديفيد، ستنجو من التهلكة، وكذلك فعلت مصر السيسي بتنازلها عن تيران وصنافير، ولم يكن ديمقراطيو أوباما وهيلاري كلينتون الَّذين نفخوا في رأس الإخوان إلا القوة الدافعة لإجبار نظام السيسي على الهروب من الدب ليقع في الجب. 

ليست نظرية المؤامرة، إنما هي وقائع الأرض، فمصر العظيمة، كبرى العرب، هي هبة اثنين: طبيعة و"مصنوع"، النيل والقناة. الأوّل جُندت له إثيوبيا المتصهينة، والآخر تم التغاضي منذ سنوات على خطر القناة البديلة من إيلات إلى المتوسط، والتي تقف الإمارات "الميكرو" بامتياز والسعودية "الماكرو" في خدمة مشروعها؛ الأولى لأنها تخال أنها بشركة موانئ دبي تصبح "الماكرو" الأولى في المنطقة، بسيكولوجية الذي لا يملك إلا المال، ويظنّ أنه يستطيع به شراء كلّ شيء، والأخرى بخوف سلطة لا مشروعية لها إلا ما قاله دونالد ترامب بصراحة. 

لا داعي للدخول في تفاصيل تقنيّة لقصّة "إيفر غيفن"، فكلّ القراء باتوا متابعين لها، ولكن لا بدّ من التذكير بأن قناة السويس لم تغلق مرة - منذ إنشائها - إلا لهدف سياسيّ مصيريّ. منذ المرة الأولى، كان الرهان بين عرابي الثائر لتحرير بلاده و"التقني الخبير" فرديناد دوليسبس، إذ ظنّ عرابي أن الفرنسي سينحاز إليه في وجه البريطاني، لكنه نسي أن الرجل هو حفيد نابوليون الأبيض الذي قطع البحار ليصل إلى مصر السمراء. وقد خذله المهندس الفرنسي، وهُزمت الثورة، وأُسر القائد الذي أخطأ الحساب. 

الإغلاق الرابع في العام 1956، شكَّل مواجهة كبرى بين ثائر آخر حفيد عرابي، هو جمال عبد الناصر، وأحفاد الاستعمار الثلاثي (المتآمران على عرابي أضيفت إليهما "إسرائيل")، إذ شكَّلت حادثة تفصيلية في هذه المعركة إنذاراً كبيراً وخطيراً لم يكن للغرب و"إسرائيل" إلا أن يفهموه ويتحركوا بوعيه. جول جمال ونخلة سكاف، الضابطان السوريان المسيحيان، قاما بعملية انتحارية دقيقة بقيادة ضابط مصري جلال الدسوقي، لمنع المدمرة الفرنسية جان بارت من تدمير مدينة السويس.

استُشهد البطلان، ولكن تمكَّن جول من الوصول إلى النقطة الميتة التي لا تستطيع المدافع إصابتها لقربها، وتمكّن من شلّ السفينة وإصابتها وإنقاذ السويس، ولو بثمن استشهاد الضباط الثلاثة (بعض المتحمسين يقولون إنَّ الفريق دمر السفينة، وبعض العملاء يهزأون ويقولون إنهم ماتوا دون أن يحقّقوا أي هدف. هكذا، لم يتغير التعامل مع حالات التضحية والفداء حتى يومنا).

بعد الرجلين، كانت حرب حزيران/يونيو. ولعل تجربتها يمكن أن تلقي الضوء أكثر على ما يحصل اليوم. أنطوني إيدن هو الذي خطط لإغلاق القناة بالسفن التجارية. تقول الباحثة والمحللة كارولين روز إنه "أراد فرض حصار غير عسكري على قناة السويس بحشد عدد كبير من السفن، بما يفضي إلى سد حركة الشحن وإثبات عجز المصريين عن إدارة قناتهم"، وتضيف أن "إيدن كان يأمل شل الحركة التجارية وإقناع المجتمع الدولي والحلفاء بدعم الإجراءات العقابية والإطاحة بعبد الناصر".

ماذا لو نقلنا هاتين العبارتين إلى اليوم: الأسلوب واحد، والأهداف واحدة في شقّها الأول، "شل الحركة وإقناع المجتمع الدولي والحلفاء"، ولكنها مختلفة بغائيتها، فالغاية هنا هي التسويق للقناة البديلة التي تشكّل حلماً إسرائيلياً قديماً، ولكنه وضع على سكّة التحقّق فور تنازل مصر عن تيران وصنافير للسعودية، وتجيير الأخيرة الجزيرتين للإسرائيلي.

فور حصول ذلك، أعلن ممرّ تيران ممراً دولياً، وأعلنت الدولة العبرية بدء العمل بقناة بن غوريون لربط البحر الأحمر بالمتوسط كي تشكّل بديلاً لقناة السويس، وأعلن مهندسوها تفوّقها على الأخيرة بعدة مزايا؛ الأولى أنها تقلل المسافة التي تجتازها السفن لبلوغ المتوسط، والثانية أنها ستحفر ممرين، الأول للذهاب والآخر للإياب، لاختصار الوقت، والثالثة أنها ستكون بعرض 200 متر وعمق 50 متراً، وفي أرض صخرية لا رملية، كما أرض السويس، ما يؤهّلها لعبور أكبر السفن الموجودة في العالم. 

هل لنا أن نقارن هذه المزايا بعلل تعطّل ممر السّفينة الضّخمة في السويس، وخصوصاً أنَّ الجهات الإسرائيلية تتوقّع أن تنتهي القناة الإسرائيلية في غضون 5 سنوات، ما دام التّمويل مؤمناً من 3 مصارف أميركية بفائدة 1% فقط (حتى لو أخّرت كورونا ذلك قليلاً، فلن يتغيَّر الأمر).

لم تكن مصر غافلة عن كلّ ذلك، ولكنّها ظنّت أنها بحفر القناة الثانية، وبالتحالف مع دول الخليج، وبالاحتجاج الشديد اللهجة، ستعوّق هذه الحرب المعلنة، لكن ماذا ينفع الاحتجاج ويدها مكبّلة بألف قيد وقيد، وقوى العرب مشتّتة ومدمّرة، فلا جول جمال ولا حرب أكتوبر، وإنما ركون أشبه بخديعة عرابي باشا!