بايدن والعولمة.. أمركة بطعم "البرغر"

الأمركة بطعم "البرغر" تعني تعميم النموذج الأميركي للأكل كرمز ومدخل لتعميم النموذج الأميركي في كل مجالات الحياة.

  • "الهامبرغر" نموذج واضح للعولمة أو الأمركة.

جاء في أحد مشاهد الفيلم الأميركي التاريخي "الإسكندر" كلام للفيلسوف أرسطو مخاطباً الإمبراطور الإسكندر الأكبر، يقول فيه: "نحن اليونانيين أمةٌ مختارة؛ ثقافتنا هي الأفضل، حضارتنا هي الأفضل، ورجالنا هم الأفضل. كل الآخرين برابرة. من واجبنا الأخلاقي أن نهزمهم ونستعبدهم وندمّرهم إذا لزم الأمر".

مضمون هذه الفقرة يلخّص عقيدة التفوّق العنصرية، ويختزل فكرة الاستعلاء الاستكبارية، وهي العقيدة والفكرة التي كانت، وما زالت، تحكم الغرب الأوروبي بالشرق الآسيوي والجنوب الأفريقي منذ غزوات اليونان في القرن الثالث قبل الميلاد بقيادة الإسكندر المقدوني المعروف بالإسكندر الأكبر، مسلّحاً بعقيدته الوثنيّة وفلسفته العنصرية، ومنذ غزوات الرومان شرقاً وجنوباً، حاملين عقيدتهم الوثنية، فالمسيحية، وفلسفتهم الاستعلائية، مروراً بالغزو الصليبي في القرون الوسطى، المدجّج بالحقد الديني والجشع الاقتصادي، والاستعمار الأوروبي في العصور الحديثة بصبغته الشريرة المتعددة الألوان وطبيعته العنصرية الاستعلائية، وصولاً إلى الاستعمار الأميركي الجديد المعاصر المرتدي قناع العولمة.

العولمة شكل جديد للاستعمار بمضمون قديم يجمع بين عنصرية اليونان واستعلاء الرومان، ويدمج بين حقد الصليبيين وجشع الأوروبيين، وهو الاستعمار الذي حرّك جيوش الغزو الأوروبية بقيادة الإسكندر الأكبر (اليوناني)، وهرقل الأكبر (الروماني)، ونابليون بونابرت (الفرنسي)، وإدموند ألنبي (الإنجليزي)، وجورج بوش الابن (الأميركي).

لا اختلاف بين الغزوات القديمة الغابرة والغزوات الحديثة المعاصرة سوى في إضافة النكهة الدينية إلى عقيدة التفوّق الوثنية الملخّصة بفكرة "شعب الله المختار"، بعد اقتباسها من التوراة المزيّفة ودمجها في الديانة المسيحية على يد الكنيسة البروتستانتية، لتنتج أسوأ ما في الحضارة الغربية، مجسدة في الصهيونية بشقيها المسيحي واليهودي، فكانت نتيجة هذا الزواج الشيطاني "دولة إسرائيل"، لتكون مركزاً للمشروع الاستعماري الغربي في قلب العروبة والإسلام.

ولا اختلاف بين الغزوات القديمة والحديثة سوى في إضافة النكهة الحضارية بطعم الأخلاق، فتحوّلت الغزوات إلى عملية حضارية أخلاقية يتم فيها "ترقية" الشعوب "المتخلّفة" وتعمير الأراضي "البور"، ولا ضَيْر إنْ قتِل الملايين وهُجّروا واستعبِدوا في سبيل هذا الهدف "النبيل". أليس هذا ما فعله المستوطنون الأوروبيون المسيحيون في البلاد التي أسموها "أميركا"؟! أليس هذا ما فعله المستوطنون الأوروبيون اليهود في فلسطين التي أسموها "إسرائيل"؟!

بهذه الروح الشريرة والنفس الجشعة، تحرّكت الولايات المتحدة الأميركية كزعيمة للعالم الغربي ووارثة لحضارته، بطبيعتها الفردية النفعية، ونزعتها الاستعمارية الاستعلائية، وروحها الحربية الدموية، وعقدتها العنصرية في التفوّق العرقي والثقافي، واعتقادها بأفضلية حضارة الأنغلو ساكسون البروتستانتية، وسيطرة فكرة التفويض الإلهي لإنقاذ البشرية عليها، وامتلاكها حق التضحية بالآخر لإنقاذ البشرية...

بهذه الروح، ألقى هاري ترومان القنبلتين الذريتين على اليابان، وغزا جون كنيدي فيتنام، وضرب دونالد ريغان ليبيا، وغزا جورج بوش الابن أفغانستان والعراق، ودمّر دونالد ترامب سوريا.

بهذه الروح أيضاً، بدأ جو بايدن رئاسته لأميركا، محاولاً إضفاء بعد أخلاقي عليها، عندما أعلن العودة للانخراط في قضايا العالم "بممارسة القيادة الأخلاقية للعالم"، التي أوضحها في مقاله "لماذا على الولايات المتحدة أن تقود العالم؟"، وهو يتضمن رؤيته لبسط الهيمنة الأميركية على العالم مرة أخرى، والسعي لدور أكبر لأميركا في إطار العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية. وبذلك، تكون العولمة مفهوماً مرادفاً للأمركة، ولكنها الأمركة بطعم "البرغر".

الأمركة بطعم "البرغر" تعني تعميم النموذج الأميركي للأكل كرمز ومدخل لتعميم النموذج الأميركي في كل مجالات الحياة، فـ"البرغر" أو "الهامبرغر" هي وجبة الطعام الرئيسية التي تقدّمها سلسلة مطاعم "ماكدونالدز"، البالغ عددها حوالى 34 ألف مطعم موزّع على 120 دولة، وهي نموذج واضح للعولمة أو الأمركة، من خلال تعميم النموذج الأميركي في الأكل؛ طريقة عمله، وأسلوب تقديمه، وطقوس أكله.

وتكون وجبة الطعام فردية وسريعة ومتشابهة ومكرّرة، كأنها تشير إلى النزعة الفردية النفعية، والثقافة السريعة السطحية، والطريقة المتشابهة في إعادة إنتاج المعرفة من دون خلقها، ونظام العمل المكرّر المملّ المجرّد من بعده الإنساني، وتكون أيضاً وجبة طعام خالية من اللمسة الإنسانية وتفاوت الذوق البشري، وعابرة للقارات والقوميات والثقافات، كما يراد لكل مفردات النموذج الأميركي أن تكون.

إن فرض النموذج الأميركي عبّر عنه الدكتور محمد عمارة، بقوله: "إنَّ العولمة هي الاجتياح الغربي بزعامة أميركية، لصبّ العالم في قالب الحضارة المهيمنة ولمصلحة أهلها"، تماماً كما عبّر سابقاً الرئيس الأميركي روزفلت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مستعلياً بنشوة النصر، بقوله: "إنَّ قدرنا هو أمركة العالم".

إذا كان قدر أميركا هو أمركة العالم، فهذا ليس قدرنا كأمة عربية وإسلامية، فالسير مع القطيع في قافلة الأمركة ليس قدراً جبرياً ولا قضاءً قهرياً، فإنْ فرض على الأمم ذات القابلية للاستعمار والاستحمار، والشعوب ذات الاستعداد للاستعباد والاستبداد، فلا يمكن أنْ يفرض على الأمم الحرّة والشعوب الأبيّة.

إن أمتنا، بما حباها الله من رسالة حضارية، وما لديها من إمكانيات ذاتية، تستطيع أن تختار قدرها بإرادتها الحرّة وعزيمتها الصلبة، فتختار القوة والقدرة والتطور والتقدم، متجاوزة ما فرض عليها من ضعفٍ وعجزٍ وتخلّفٍ وتأخرٍ، وهي تستطيع أن تخرج من التبعية لتصنع فجر استقلالها، وتغادر الماضي لترسم ملامح مستقبلها، وتتحرر من ضيق التقليد إلى سعة التجديد، وتتمرد على قيود الاتّباع لتتنفّس هواء الإبداع.

وأخيراً، تستطيع الأمّة أن تستحضر مفهوم التدافع الحضاري الإسلامي، بدلاً من مفهوم الصراع الحضاري الغربي، فتستبدل بالتنافس الحضاري التفاعل الحضاري، وبتنافر الشعوب تعارف الشعوب، وبإلغاء إنجازات الحضارات غير الغربية البناء على تراكم إنجازات الحضارة البشرية، وهي تستطيع أن تستدعي مفهوم العالمية الإسلامي بدلاً من مفهوم العولمة الأميركي، فتستبدل بتناقض الثقافات تلاقح الثقافات، وبفرض النموذج الأميركي على العالم الالتقاء على القواسم الإنسانية المشتركة، وبتعميم مزاعم التفوّق العنصرية تعميم قيم الأخوّة الإنسانية. وعندما تصل الأمة إلى هذه المرحلة، ستعيش العالميّة الإسلاميّة بطعم العزة والحرية، بعد أنْ تتمرد على الأمركة بطعم الذل والعبودية.