الأسد في دوما.. اقتراع المنتصر وليس اقتراع المرشح

لم تكن مدينة دوما محطة هامشية في الأزمة السورية، بل كانت منطلقاً لمشروع أريد له اختطاف سوريا، لكن صورة إدلاء الرئيس السوري بصوته من دوما اليوم تحمل أبعاداً ودلالات تؤكد النصر الكبير وتؤسس للمرحلة القادمة.

  • غنوة المنجد، صحافية سورية تدلي بصوتها في مدرسة بمدينة دوما
    غنوة المنجد صحافية سورية تدلي بصوتها في مدرسة في مدينة دوما

تقف الصِّحافية السورية غنوة المنجد أمام مدرسةٍ وسط مدينة دوما، صبيحة يوم الانتخابات الرئاسية السورية، لتدلي بصوتها الانتخابي. يعود بها الزمن إلى سنواتٍ خلت، حين اختطفها "جيش الإسلام" من منطقة الكباس في ريف دمشق، وتم نقلها مع عائلتها والمئات من المدنيين السوريين عبر الأنفاق في زملكا وعربين، وصولاً إلى جمعهم في هذه المدرسة بالذات.

تستذكر غنوة المعاملة السيئة التي تلقتها من مسلحي "جيش الإسلام"، وإبقاءها لأيام من دون طعام، وحجم الرعب الذي عايشته خوفاً على حياتها وحياة أفراد عائلتها، إضافة إلى احتجاز حريتها ومَنعِها من التواصل مع الآخرين، وتقارن ذلك كله مع ما تراه اليوم؛ دوما اليوم مدينة آمنة، ولا خوف من التنقل في أرجائها. حضور الدولة بأجهزتها ومؤسساتها والتنظيم المميز للانتخابات، يظهران الفارق الشاسع بين اليوم والأمس. هذه صورة تنسحب على كل المناطق السورية الخارجة من رحم الأزمة وسطوة الإرهابيين.

ترسل الانتخابات الرئاسية السورية التي جرت اليوم الكثير من الرسائل على أكثر من مستوى. هي استحقاق دستوري في الأساس، ولكنّها اليوم مؤشر على أن سوريا رمت وراء ظهرها 10 سنوات من الدم والنار والدمار، وانطلقت في مرحلة جديدة تحارب فيها مفاعيل الحصار والتكبيل والسياسات الغربية، وهي أيضاً رسالة إلى الدول الإقليمية بأنَّ سوريا تتعافى بسرعة، وباتت جاهزة لعودة كلّ من أخطأ بحقها أو تآمر عليها، وإلى دول الغرب، بأن الحصار ومحاولات التجويع والاستفادة من اللاجئين لن تجدي نفعاً، وأن سوريا، بقدراتها الداخلية وبقوة شعبها ودعم حلفائها، قادرة على إعادة الإعمار وتدعيم عوامل القوة الداخلية والخارجية.

هي في الشكل انتخابات تعددية لاختيار واحد من 3 مرشحين لمنصب الرئيس، ولكنها في المضمون استفتاء شعبي على خيار السوريين، وعلى ما يريدونه لبلدهم في السنوات السبع القادمة، وهو ما ظهر في صورةٍ كانت مفاجِئةً في حجم الحضور والإقبال على الانتخابات، التي مهما حاول البعض تشويهها وضرب صدقيتها، فإنه لن يفلح.

لكن مشهد إدلاء الرئيس بشار الأسد بصوته في الانتخابات اليوم واختياره مدينة دوما في ريف دمشق، لهما كبير الأثر في دلالاتهما وصورة النصر الذي تريد سوريا تصديره لمواطنيها وللعالم، وخصوصاً بعد التجمع الشعبي الكبير الذي شهدته المدينة قبل أيام - كما العشرات من المدن والقرى السورية - والذي كان تأييداً للاستحقاق الانتخابي، ولانتخاب الأسد مجدداً.

دوما: من الخاصرة الرخوة إلى رسالة النصر الكبرى

تعتبر مدينة دوما إحدى أهمّ المدن في محافظة ريف دمشق، وأكبر التجمعات السكانية قرب العاصمة دمشق (قبل العام 2011، كانت تضمّ ما يزيد على 150 ألف نسمة)، وتعدّ المركز الإداري للمحافظة الَّتي تترامى أطرافها حول دمشق من الجهة الشرقية، وحتى الجنوبية، فالغربية، وتشكّل الخزان الزراعي والصناعي للعاصمة، بغوطتها الشهيرة ذات المحاصيل الزراعية المتنوعة الموجودة فيها.

مع بداية التّظاهرات في العام 2011، شهدت المدينة عدة تحركات ذات طابع مطلبي اقتصادي أو اجتماعي، وخصوصاً أن هذا الريف الدمشقي تأثر ببعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية في السنوات التي سبقت الأزمة، ما أدى إلى تعثر بعض الصناعات والحِرف.

سريعاً، تم استغلال التظاهرات في المدينة ومحيطها، وبدأت جهاتٌ معروفةٌ بتوجهاتها الإخوانية أو السلفية تعمل على تأجيج التظاهر وتحريكه وإعطائه بعداً عنيفاً يستدعي رداً من قوات الأمن.

برز على خط الأحداث زهران علوش، وهو السجين السابق نتيجة نشاطه السلفي الجهادي في دوما، والذي درس في السعودية، وعاد حاملاً معه فكراً سلفياً ودعماً سعودياً، تبدى في تحضيره سريعاً لتأسيس ما أسماه بدايةً "لواء الإسلام"، كفصيل مسلَّح لا يعترف بباقي فصائل المعارضة المسلحة، وأولها ما سُمي "الجيش الحر".

كان واضحاً حجم الدعم السعودي لزهران علوش، الذي أريد له أن ينشئ "جيشاً" بكلّ معنى الكلمة، يكون خنجراً في خاصرة العاصمة، ومنطلقاً لكل الأعمال العدائية تجاهها، ولاقتحامها لاحقاً. جمع الرجل حوله الكثير من التنظيمات الأصغر عدداً والأقل دعماً، وشكل "جبهة إسلامية" كان قائدها العسكري. وكان الفصيل الأقوى فيها "جيش الإسلام".

اعتمد علوش خلال هذه الفترة على مهاجمة قواعد الجيش السوري المنتشرة في الغوطة الشرقية ومحيطها، وأهمها كتائب الدفاع الجوي، وسرقة عتادها العسكري، إضافة إلى الدعم الكبير بالمال والسلاح الذي اعترف بأنه حصل عليه وأدخله إلى المنطقة. ويوجد فيديو شهير يقرّ فيه بأنه أدخل إلى الغوطة مبالغ ضخمة تصل كلّ دفعة منها إلى 12 مليون دولار.

لا ينسى الدمشقيون اسم زهران. هو الَّذي ارتبط في ذاكرتهم بأيام صعبة أمطر فيها الرجل و"جيشه" العاصمة بآلاف قذائف الهاون التي قتلت المئات وأصابت الآلاف، من دون أي هدف أو نتيجة عسكرية واضحة، سوى معاقبة الدمشقيين على خيارهم بالوقوف مع الدولة السورية، إضافة إلى المرات الكثيرة التي هاجم فيها مسلحوه أطراف العاصمة وهددوا مداخلها، وخصوصاً مدخلها الشمالي (أوتوستراد دمشق - حمص) الذي يمر بمحاذاة دوما وحرستا، والذي ظلَّ قناصة "جيش الإسلام" يستهدفون أي سيارة مدنية تمرّ به، ما تسبب بقطع الطريق الدولية وإبقائها كذلك لسنوات، حتى تحرير الغوطة في نيسان/أبريل 2018 وإعادة فتح الطريق الحيوية.

أضف إلى ذلك الهجوم الشهير على مدينة عدرا العمالية الملاصقة لدوما، والذي تعاون فيه علوش مع جبهة "النصرة"، وتم قتل وخطف العشرات من العائلات التي تقطن هذه المدينة الصناعية، والتي ظل بعض أبنائها مخطوفاً في سجون علوش و"النصرة" لسنوات أو قُتل فيها. هؤلاء الأشخاص وضعهم علوش في أقفاص حديدية، ووزّعهم على أسطح البنايات والمؤسسات في مدينة دوما، زاعماً أن ذلك يسهم في منع الطيران الحربي السوري من استهداف مقار ميليشياته.

لم تكن مشكلة السوريين مع زهران علوش والمشروع الذي أتى به تقتصر على أولئك الموجودين في مناطق الحكومة ومؤيديها، بل امتدّت إلى أطياف المعارضة أيضاً، فقد عمل على الاستفراد بالقرار في الغوطة وغيرها، ورفض أيّ مشروع منافس لمشروعه، من خلال التضييق على كل الفصائل الأخرى حتى تنضوي تحت لوائه، وهو ما حققه بشكل شبه تام، ناهيك بملاحقته الناشطين المعارضين. ولنا في اختطاف رزان زيتونة خير مثال على ذلك.

الأخطر في مشروع علوش أنه كان منصةً سعوديةً متقدمةً في العمق السوري، ومحاولةً لفرض النهج السلفي الوهابي الغريب عن سوريا والسوريين، عن طريق تكفير مكونات الشعب السوري، والتصريحات الطائفية المقيتة تجاه فئاتٍ سوريةٍ محددةٍ، ناهيك بمسرحيات الكيميائي التي كانت يراد لها أن تكون حجَّة للتدخل الغربي العسكري في سوريا، أو على الأقل تشديد الحصار الغربي عليها.

هذا المشروع أُفشل وأُجهض بعد قتل زهران علوش في نهاية العام 2015، واستكمل في تحرير الغوطة الشرقية كلها على أيدي الجيش السوري وحلفائه في بداية العام 2018، لكن زيارة الأسد اليوم إلى دوما رسالة مفادها أن المدينة، والكثير من المناطق التي تشبهها، نفضت عنها غبار الحرب والفوضى، وانتقلت إلى مرحلة الإعمار والبناء، معلنةً انتصار سوريا بشكل كامل، ليكون اقتراع الأسد في دوما اليوم اقتراع المنتصر، وليس اقتراع المرشح فحسب.

بعد 10 سنوات من عمر الأزمة السورية، بدأت دمشق تتنفس الصعداء بعد أن حققت الانتصار على المجموعات المسلحة وأعادت السيطرة على غالبية الجغرافيا السورية، لتبدأ مرحلة جديدة من البناء وإعادة الإعمار مع الانتخابات الرئاسية.