أيّ مستقبل للاتحاد المغاربيّ في ظلّ تراجع الغواية الليبراليّة المعولمة؟

إلى أي مدى يمكن اعتبار وجود الاتحاد المغاربي تكريساً لنهج المنظومة الليبرالية ورؤيتها؟ وهل سيؤثر النقاش حول أهمية التكاملات الإقليمية في المنظومة الليبرالية في جدوى إمكانية إعادة تفعيل الاتحاد؟

  • تأسَّس اتحاد المغرب العربي
    تأسَّس اتحاد المغرب العربي "UMA" بتاريخ 17 شباط/فبراير 1989 في مدينة مراكش المغربية

في سياق الجدل الفكريّ الحادّ الّذي يدور داخل المنظومة الليبرالية، ويلقي ظلالاً من الشك حول جدوى التكتّلات الإقليميّة في بناء النظام العالمي، تحيي الدول المغاربية الذكرى الثانية والثلاثين لتأسيس ما يعرف بـ"اتحاد المغرب العربي"، وهي تواجه مصاعب ومتاعب جمة وصلت إلى مستوى وجود رغبة لدى بعض نخبها في التخلص من هذه التجربة (التكاملية الفاشلة)، وكأنها تريد بذلك أن تقول: لسنا سوى رجع صدى لما تكابده أجندة التجارب التكاملية لدى قوى العولمة الليبرالية، وهي ظروف أحاول البحث فيها من هذه الزاوية، عبر الإجابة عن الأسئلة التالية:

إلى أي مدى يمكن اعتبار وجود الاتحاد المغاربي تكريساً لنهج المنظومة الليبرالية ورؤيتها؟ وهل سيؤثر النقاش حول أهمية التكاملات الإقليمية في المنظومة الليبرالية في جدوى إمكانية إعادة تفعيل الاتحاد؟ وإذا كان الأمر غير ذلك، هل تتوفر منطقة على شروط بعث نظام إقليمي مستقل؟

التكامل والاندماج ممرّ حتميّ لحكم عالمي غير ممكن واقعياً؟ 

شكّل ما يعرف بظاهرة التكامل والاندماج الاقتصادي والسياسي أحد أهم المواضيع التي عملت عليها القوى الليبرالية منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية. وإذا كانت في البداية قد جاءت في سياق توفير كل الأسباب التي تساعد على نشر السلام والأمن بين الشعوب التي عانت آثار النزاعات والحروب المدمرة، كما تذهب إلى ذلك كتابات "دافيد ميتراني" (David Mitrany) في النظرية الوظيفية (Theory of Functionalism) القائمة على مسلمات مثالية تنحو نحو التفاؤل بوجود إمكانية لتحسين وتطوير ظروف المجتمعات، أو أرنست هانس (Ernst Haas) في الوظيفية الجديدة (Neo-Functionalism)، انتقل إلى حد التشكيك في قدرة الدولة القومية على الوفاء بالتزاماتها حيال مواطنيها، ما يستدعي، بحسب قوله، ضرورة الانتقال بالولاء (من ولاء) للدولة القومية إلى الولاء لهيئات جديدة عبر قومية هي المنظمات الإقليمية، وصولاً في نهاية المطاف إلى اندماج وانصهار الدول الواقعة في إقليم محدد داخل كيان (دولة) إقليمي أكبر. 

وقد قارب بهذا الطرح كذلك كل روبارت كويهان (Keohane.R) وجزيف ناي (Nye.J) في الليبرالية المؤسّساتية التي اعتبرت أنَّ المسارات التكاملية الإقليمية سوف توفر كل شروط التعاون والتفاهم، وتخلق المصالح المشتركة التي تحيل أي مسعى نزاعي إلى قضية مكلفة لجميع الأطراف، فضلاً عن إعطائها أهمية للمنظمات الدولية والمجتمع الدولي في تحقيق التعاون والاعتماد المتبادل. وفي الوقت نفسه، سعت للتقليل من مكانة ودور الدولة وإظهار ضعفها إزاء التكتلات الإقليمية.

وأقدّر أنّ تجربة الاتحاد الأوروبي (EU) للعام 1992، واتفاقية "نافتا" (NAFTA) للعام 1994، والسوق المشتركة الجنوبية (MERCOSUR) للعام 1991، وتكتلات أخرى مثل رابطة جنوب شرق آسيا (ASEAN)، ومجموعة التعاون الاقتصادي لآسيا الباسفيكي (APEC)، والتجمع الاقتصادي لدول غرب أفريقيا (ECOWAS)، والاتحاد الاقتصادي لدول وسط أفريقيا ((ECCAS، والسوق المشتركة للشرق والجنوب الأفريقي "الكوميسا" (COMESA)، هي محصلة النهج الليبيرالي الهادف إلى تهيئة ظروف وشروط المجتمع العالمي، تمهيداً لإقامة حكم أو حوكمة عالمية (التي جرى التسويق لها في العقود الأخيرة)، من دون عناوين إيديولوجية أو لغوية عرقية أو دينية بارزة. تبعاً لذلك، هل يمكن القول إن التكامل المغاربي هو في المحصلة تجسيد لأجندة ليبرالية، وأقرب إلى الانقسام منه إلى الاتحاد؟

اتحاد المغرب العربي.. الفكرة الوافدة والتّسمية المثيرة للانقسام؟  

تأسَّس اتحاد المغرب العربي "UMA" بتاريخ 17 شباط/فبراير 1989 في مدينة مراكش المغربية، وهو يضم دول شمال أفريقيا الخمس: الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا وليبيا. 

وقد تزامن بعث الاتحاد مع تحولات دراماتيكية شهدها العالم مسّت بالأساس دول المعسكر الاشتراكي، وعنوانها الرئيسي البارز "الحرية الاقتصادية والديمقراطية"، فالاتحاد السوفياتي سابقاً كان يعيش على وقع شعار ميخائيل غورباتشوف "ألبيرسترويكا والغلاسنوست" (Glasnost and Perestroïka). وكانت دول أوروبا الشرقية، كرومانيا وبولونيا ويوغسلافيا، تكابد ثورات اجتماعية وسياسية من أجل الحرية، وكانت ساحة تيان آن مان ببجين في الصين تشهد تظاهرات دموية من أجل "الحرية". كان الوضع بشكل عام يشي بأن اليسار مأزوم، والليبرالية تتهيأ لإعلان الانتصار الأول، في انتظار الخلاص من الدولة القومية التي شكلت تحدياً للنخب والقادة السياسيين الطامحين لحكم عالمي ليبرالي معولم. 

لقد ضمّ الاتحاد المغاربي 5 دول ذات أنظمة سياسيّة متمايزة ومختلفة لا يجمع بينها سوى حتمية الجغرافيا والتاريخ المشترك. بالنسبة إلى الجزائر، تراجع زخم علاقاتها مع المعسكر الاشتراكي في المجال الاقتصادي أساساً بتولي الرئيس الشاذلي بن جديد الحكم وشروعه في إصلاحات اقتصادية، بالموازاة مع حفاظها على علاقة اقتصادية مع الغرب (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا أساساً).

خلال فترة التّأسيس هذه، كانت الجزائر تعيش على وقع انتفاضة الخبز والزيت (أزمة 1986 الناتجة من انهيار أسعار البترول وأحداث أكتوبر 1988). أما المملكة المغربية، فقد تماهت في علاقاتها مع الغرب في جميع المجالات ذات الطابع السياسي والاقتصادي. 

وبخصوص ليبيا، فقد تبنت قيم المنظومة الاشتراكية، مثلها مثل الجزائر، إذ كانت لها علاقات وطيدة ومتميزة مع المعسكر الاشتراكي. وقد ظل الرئيس الليبي معمر القذافي يشجع (الخطاب) على كل المساعي الوحدوية في إطار ما سمي آنذاك "القومية العربية". أما تونس المنفتحة والمتطورة ثقافياً واجتماعياً، والبلد السياحي بامتياز، فقد كان يحكمها نظام براغماتي غير منحاز، في حين ظلَّت موريتانيا الفقيرة تحكم بانقلابات عسكرية.

هكذا، وفي الوقت الذي بدأت تبرز مؤشرات فرض الرؤية الغربية المستندة إلى قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتكتلات الإقليمية في إطار الحوكمة الغربية المعولمة على الطريقة الأميركية، كانت المنطقة المغاربية تعاني أزمات متعددة معقدة، فالتشظي والتفكك سمة الأنظمة الحاكمة، إخفاق دولة ما بعد الاستقلال في إنجاز التنمية والتطور والتحديث والخروج من دائرة التخلف والفقر. 

ولعلّ عدم الفصل بين أنظمة الحكم والدولة، في ظل ما تعانيه المنطقة المغاربية من قصر حياة الدولة فيها (عدم الوعي بضرورتها في حياة الناس)، لكونها ظلت لفترات تاريخية طويلة تعاني حكم الاستعمار أو الوصاية. لقد انعكس ذلك بشكل سلبي على إدراكات إنسان المنطقة المغاربية حيال الدولة، ففي ظل عجزها عن بلورة آليات إدارة حكم تداولي سلمي حول السلطة، وبناء نظم اقتصادية واجتماعية وثقافية متماسكة، وارتباط نخبها الحاكمة بعلاقات مع القوى الاستعمارية التقليدية، ظلّ ينظر إلى الدولة والحكم المركزي بعين الرفض، علاوة على تنامي دور تيارات دينية ولغوية عرقية باتت تشكل تهديداً لاستقرار الأنظمة. 

أقدّر أنَّ مثل هذه العوامل كفيلة بالقول إنّ تأسيس الاتحاد لم يكن نتيجة وعي بأهمية اللحظة التاريخية الاستراتيجية، بقدر ما كان رجع صدى لسياسات ليبرالية كانت تؤسس لحكم عالمي. وكخطوة أولى، نقل الولاءات الوطنيّة للدولة القومية إلى ولاءات فوق الدولة، مع توظيف التكنولوجيا الرقمية لتسريع حصول تغييرات بنيوية مجتمعية، ومن خلالها تصير المنطقة المغاربية متماهية مع متغيرات البيئة العالمية ذات القيم الغربية المعولمة، لكن في ضوء بروز مؤشرات فشل الحوكمة العالمية الليبرالية، وعبره تراجع دافعية التكامل المغاربي، هل تتوفر المنطقة على شروط بعث تكتل إقليمي قادر على مواجهة مخاطر نظام دولي يتجه ليكون إمبراطورياً؟ 

اتحاد دول شمال أفريقيا، هل يكون المخرج الآمن؟ 

في ظلّ الفشل والعجز الذي يعانيه التكامل المغاربي، وتراجع أسهم النيولبيراليين في حوكمة العالم، يجدر التفكير في التأسيس لتكتل إقليمي يستند إلى قواعد صلبة وسليمة وصحيحة غير مثيرة للانقسام والتشظي (أن لا يكون انتصار لكينونة أو ثقافة أو إيديولوجية على حساب نظيراتها)، كما هو الحال بالنسبة إلى تسمية "اتحاد المغرب العربي،" المختزل للمنطقة في بعد واحد، رغم أنها متنوعة ومتعددة عرقياً ولغوياً وثقافياً. 

بدلاً من ذلك، يجدر أن يأخذ بالتسميات الحيادية أولاً (على غرار اسم)، كمثال على ذلك "اتحاد دول شمال أفريقيا" التي تسمو فوق كل الانتماءات، وكما هو حاصل في الكثير من مناطق أخرى من العالم، حيث تتم التسميات بناء على الانتماء الجغرافي. 

وينبغي العمل لاستنبات قيم الولاء والانتماء إلى الدولة-الأمة، وإلى الفضاء الإقليمي المبني على القيم المشتركة والمساواة والتعاون المشترك، والمستقل في صنع قراراته واتخاذها في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع. وقبل كل ذلك، يجب إصلاح الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذه الدول، إذ تتحدد فيها مكانة المواطن وقيمته على أساس تقديسه العمل وحفاظه على المال العام واحترامه للقانون. وعلى نحو ذلك، لا يكون تولي المناصب إلا على أساس هذه القيم. 

وفي ظلّ الأزمات التي تعانيها المنظومة الليبرالية الدافعة للمسار التكاملي المغاربي، يجدر، وقبل الحديث عن أيّ اتحاد يجمع دول شمال القارة الأفريقية، العمل بقوة على ترسيخ قيم الدولة التي تظل المنطقة في خصومة وعداء معها، لأسباب عديدة، على اعتبار ما يمثله حكم الدولة المركزي وبعدها، في ظل الوعي بمنطق القوة والنفوذ والهيمنة الذي يحكم العلاقات الدولية في مخيال الإنسان المغاربي. 

حينذاك، يمكن التفكير والعمل على المستويين، النخبوي والسلطوي، من أجل بناء تكتل دول شمال أفريقيا الذي يعكس ويراعي الواقع الجيوبوليتيكي المهم والحساس للمنطقة التي تؤمن بحضارة إنسانية واحدة، والمشرفة على فضاء متنوع وثري ثقافياً وعرقياً ولغوياً.