في براغماتيّة الحالة التونسيّة: انقلاب أو إصلاح مسار حتى إشعارٍ آخر؟

تتحرّك الأحداث في الساحة التونسية بما لم يألفه المزاج العربي من قبل، وبما يعطي الحالة التونسية براغماتيةً فريدةً لا يمكن تفكيكها وفهمها بمعزلٍ عن فهم فرادة تكوين الشخصية التونسية.

  • في براغماتيّة الحالة التونسيّة: انقلاب أو إصلاح مسار حتى إشعارٍ آخر؟
    ما حدث في تونس في العام 2011 كان "تصحيح مسارٍ" لا ثورةً

تتحرّك الأحداث في الساحة التونسية بما لم يألفه المزاج العربي من قبل، وبما يعطي الحالة التونسية براغماتيةً فريدةً لا يمكن تفكيكها وفهمها بمعزلٍ عن فهم فرادة تكوين الشخصية التونسية. ولعلَّ لجوء عدد من المراقبين إلى قياس الحالة التونسية بغيرها من الحالات العربية، وخصوصاً تلك التي اهتزّت ساحاتها السياسية بعد العام 2011، شكّل بداية الإشكال في الفهم، إذ إنّه قياس مع فارق كبير. 

ولعلّ الرئيس التونسي قيس سعيد وفريقه أدركوا مبكراً أنّ الأمور إنما تقاس - عند السواد الأعظم من الشعب التونسي - بخواتيمها ومآلاتها، لا بمقدّماتها أو إطارها أو خلفيّتها، وأن الشعب التونسي - من جهة أخرى - متمسك بمؤسسات الدولة.

يدلّ على جانبٍ من كلّ ما تقدمَ تقبّلُ الشعب التونسي تقلّد الوزير الأول لحكومة زين العابدين بن علي ورئيس برلمانه - إبان سقوط الحكم - الرئاسة الانتقالية المؤقتة، وكلاهما من أركان النظام السابق. 

كما يدل عليه وصول رجل مخضرم مثل الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي إلى سدة الرئاسة بعد ذلك، ثم عودة جانب من متحزّبي "التجمع الدستوري الديمقراطي" إلى الساحة السياسية بفعل جانب من أصوات الشعب، لأن الشعب التونسي كان قد انتفض في العام 2011 على ما يراه زمرة حكم تونسية فاسدة - إبان ذلك - لا على انتماءٍ أيديولوجي أو حزبي معين.

يوجد هنا جانبٌ من "التسامح المقاصدي" والبرغماتية الخاصّين بالحالة التونسية. على كلِّ حال، انتفض الشعب من أجل الكرامة، ولطالما لهج المتظاهرون بذلك آنذاك، إنما كانت "الديمقراطية" وسيلة عنده - لا غاية - إبان انتفاضته، وصارت بعد ذلك مكسباً. والناظر إلى كل ذلك يكاد يجزم أنّ ما حدث في العام 2011 إنما كان "تصحيح مسارٍ" لا ثورةً.

وقد أدرك فريق الرئيس قيس سعيد أيضاً أن قياس الأمور – وتقبّلها - عند السواد الأعظم من الشعب التونسي لا هو بمرجعية دينية صرفةٍ – حتى عند طيف كبير من ناخبي حركة "النهضة" نفسها - ولا هو عشائري (عروشي) صرف، ولا هو عرقي صرف بين عرب وأمازيغ وذوي أصول تركية أو أندلسية أو غيرها، ولا هو طائفي صرف بين الغالبية المالكية والأقليات الأخرى، إذ إنَّ الشعور بالانتماء إلى أيّ من هذه المكونات جرى تحجيمه في الشخصية التونسية.

تمَّ ذلك بعمق وبمراوحة بين النعومة والخشونة بمقادير مختلفة، عبر أجيال متتالية، وخلال عقود من تركيز النظام "السيكولاري" التونسي الفريد. قد يسمّيه بعضهم الدولة العلمانية أو المدنية الحديثة، ولكن الأمر ليس كذلك في الدول العربية الأخرى، إذ بقي التمايز على أساس هذه الانتماءات/الاصطفافات ظاهراً وفاعلاً بمقادير تختلف باختلاف البلد، ولكنَّها - في كل الأحوال - واضحةٌ إلى شديدة الوضوح في بعضها. 

وفي دول عربية لا تظهر فيها هذه الانتماءات واضحة، فإن غيابها كان - إجمالاً - بفعل قمعها من مؤسسة الدولة، لا لأنّها – بالضرورة - خفتت في تكوين شخصية مواطنيها، فهي مكونات ساكنة فيهم - أو في أغلبهم - يعيدون استدعاءها بسهولة عند توفر الظرف المناسب لذلك.

وليست كلمة الرئيس التونسي - إبان حملته الانتخابية - "ولى زمن التجاذبات الأيديولوجية البالية" إلا جزءاً من إدراكه وفريقه نبض شريحة واسعة من شارعٍ تونسي أكلوا خبزه وشربوا ماءه وارتادوا مساجده ومقاهيه وشوارعه، فتعرَّفوا إلى "مزاجه السياسي" في ظروف طبيعية غير مصطنعة، فعدلوا تحركاتهم على وقعه.

ولم يكن ذلك شأن السياسيين الحزبيين "التنظيريين"، وخصوصاً من الأحزاب التاريخية القديمة، الذين حافظوا على البون الشاسع القديم بينهم وبين الشارع التونسي، إذ انشغلوا بالوفاء لمبادئهم الأيديولوجية، فصرف ذلك الجزء الأكبر من اهتمامهم عن فهم نفسية الناخب التونسي إلا من قواعدهم الحزبية الضيقة التي كانت ستنتخبهم على أي حال. 

وليس من الصدفة أن يكون السباق الانتخابي الأخير في دورته الثانية بين رجلين لا عراقة لأحدهما في العمل السياسي. كان ذلك إيذاناً واضحاً بسخط الشعب على كلّ من مارس السياسة بعد العام 2011 وتوجّه نحو التغيير أو "تصحيح المسار". إن "القروي" المنهزم لطالما ردد عبارة "يجب إدارة البلد بعقلية المؤسسة الاقتصادية"، وهي براغماتيةٌ فجةٌ، ولكنها تلامس الجانب البراغماتي من وجدان شريحة كبيرة من الشعب التونسي.

وإذ يقع اليوم تأرجحٌ في الحالة التونسية وفي الرأي العام التونسي، فهو ليس - في عمومه - على أساس أي من هذه الخلفيات الأيديولوجية، بل لأنّ الحقّ - كل الحق - ليس في جانبٍ واحدٍ، على الأقل من الناحية الدستورية، إذ يقع أغلب الخلاف الحاصل في تأويل النص الدستوري الذي توسل به الرئيس التونسي لاتخاذ هذه "الإجراءات الاستثنائية"، ذلك أن النص لم يكن محكماً واضحاً، بحيث إنه لا يحتمل أكثر من قراءة واحدة، فمكّن ذلك رئيس البلاد من تأويله، وإن الرئيس - من جهة أخرى - إذ أوَّل النصَّ، فإنه لم يترك المجلس النيابي "في حالة انعقاد"، ما أعطى خصومه حق الاستشكال عليه حقاً لا ينازعون فيه. 

ولأن الأمور - عند وقوع التأويل المشروع - تقاس بخواتيمها، فإن مآلات هذه الإجراءات وتأثيرها في "ديمقراطية البلاد" من جهة، وفي الاستجابة لمطلب الشعب في القضاء على الفساد من جهة أخرى، تبقى الحاكم الوحيد على وجاهة ما كان من تأويل هذا النص الدستوري، ليبقى الأمر متأرجحاً - حتى إشعار آخر - بين أن يكون "انقلاباً" - إن انقلب في ختام "الإجراءات الاستثنائية" على الديمقراطية والحريات - أو "تصحيحاً للمسار" إن حافظ على هذه المكتسبات ونجح في محاربة الفساد - دونما حيفٍ أو تصفية حسابات - ورد ما تيسّر من "الكرامة".