الشرق الجديد- فجرٌ جديد

في الشرق الأقصى رهان حلّ للأزمة الوجودية التي باتت تعصف بجوهر الكيان الأميركي

ترسم الأحداث الجارية، والتي يُفترَض أن تكون قد اقتربت من خواتيمها، عالماً جديداً ينطلق من الشرق.

الكامِن في باطن المجتمعات، والدول، استولد اتجاهات لم تكن مُرتقَبة عند انطلاق الأحداث، وما كان مرسوماً، غير ما آلت الأمور إليه.

انطلقت الأحداث في حركة أسميت ب"الربيع العربي"، وفي انطلاقتها، والظروف التي نبعت منها، وتطوّراتها، وما أثمرته يؤشّر إلى تشابهها إلى حد بعيد بالثورات الملوّنة التي شهدتها أوروبا الشرقية، فقلبت الأنظمة، ولم تأتِ بجديد ثوري، تغييري، على ما ادّعت.

انقلبت الأوضاع في تونس، ومصر وكان التغيير شكلياً، طال السطحي من بعض الأمور، كتغيير الرئيس، لكن كل ما تبقّى بقي على حاله، ولم يأتِ التحرّك بأية تغييرات عميقة تطال بنية المجتمع على ما يُفترض أن يكون ثمرة للثورات. على أنه في الأصل، التحوّلات والمُتغيّرات تحصل قبل التحرّك، وفي باطن الواقع قبل تجلّيه في تحرّكات المجتمعات.

في ليبيا، جاءت الأحداث أشبه باستكمال للحربين على العراق، قُتِل الرئيس، وسقط النظام، وتدمّر البلد. وفي اليمن أدّى الحراك الشعبي إلى تغييرات إن أثمرت، فإنما الحرب الضروس المستمرة التي يشنّها التحالف السعودي على البلد.

أما في سوريا، فربما كان معظم الحراك العربي ابتداء من شمال أفريقيا، يستهدف الوصول بالنهاية إلى هذه البقعة الاستراتيجية، جغرافياً وتاريخياً وحضارياً، لأنه، منها يمكن الانطلاق نحو اتّجاهات العالم المختلفة.

 

في بداية الأحداث، كانت الولايات المتحدة الأميركية لا تزال وحيدة كقوة كبرى على الساحة العالمية، تُحرّك محرّكاتها بما تبقّى فيها من مخزون وقود سابق، ولم يكن أحد يدرك أنه يقترب من الشحّ.

في الظاهر والمُعلَن، كانت الولايات المتحدة لا تزال في موقعها الهجومي، والمبادرة بيدها، وكل ما عداها كأنه في غيبوبة. وهي خطّطت بحسب ما نشرت من أبحاث واستراتيجيات، لما أسمته الفوضى الخلاّقة، وكان من الغايات المتعدّدة منها، شرق أوسط جديد ستتمكّن من خلاله، إذا تحقّق لها ذلك بتجزئته دويلات مذهبية، وإثنية أشبه بفتات دول، التمركّز بقوة للانطلاق إلى الشرق، الهدف الأساسي لها، حيث تشعر بالخوف من نمو مارد صناعي وتكنولوجي يقضّ مضاجعها، وهو الصين، وفي الطريق إليها، إيران، أساساً، التي يُفترض إزاحتها من الطريق للعبور إلى الشرق الأقصى.

وفي الشرق الأقصى، رهان حلّ للأزمة الوجودية التي باتت تعصف بجوهر الكيان الأميركي، ونظامه الاقتصادي المُتآكل، ورهانها على منظومة اقتصادية فاعلة تنخرط فيها مع عدد من الدول الناشئة، والناهضة، والنامية، هي منظومة آسيا-الباسيفيك الاقتصادية، ومن خلالها تحقّق حلولاً لأزماتها، وتؤمّن وظائف لشبابها -بحسب رئيسها السابق أوباما- من جهة، وتُحاصر الصين كغاية مركزية، من جهة ثانية.

أوباما قال قبل انتهاء ولايته بأشهر في لقاء لدول المنظومة إن رهان الولايات المتحدة بات على "آسيا-الباسيفيك" حيث لم يعد لنا من ساحات عالمية تحلّ مشكالنا الاقتصادية، إلا أصدقاءنا في الاتحاد الأوروبي التي بلغت نسبة النمو لديهم الصفر، وعليه لم يعد بالمكان الرهان على أوروبا.

لكن هذا الرهان لم يجد طريقه إلى الحياة بسبب إصرار الولايات المتحدة على إخضاع منظومة آسيا-الباسيفيك لنظامها الليبرالي، ورقابة البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، فرفضت الصين وروسيا، ودول أخرى، الانضواء في هذه المعايير. وربما وجدت فيه ما يتعارض مع سياساتها الكامنة في تجاربها الاقتصادية المُتجدّدة.

من أهم أهداف الصراعات التي عاشها العالم العربي إيجاد عالم مضطرب، فوضوي، لكنه "خلاّق" بنظر الأميركي، ومنه ينطلق إلى حل أزماته، بسيطرة جديدة، وحروب جديدة ستحلّ بنتائجها أزمته الوجودية، بعناصر عديدة، منها مُحاصرة الصين، والسيطرة على الشرق الأقصى.

وعلى الصعيد الروسي، والإيراني في الوقت عينه، كان المخطّط له بنظام سياسي "أخواني" يمتدّ من تونس، مروراً بليبيا، فمصر، فسوريا، فتركيا، وصولاً إلى دول آسيا الوسطى على تخوم روسيا، وما تحويه من تشكيلات اجتماعية سلفية في القوقاز والشيشان وسواها.

وفي كل الحالات، لم يكن ذلك ممكناً من دون العبور في سوريا، المعبر التاريخي-الاستراتيجي لغزوات العالم، فانخرط الغرب في حرب عليها، وحرب فيها، للانطلاق منها إلى الشمال الروسي، والشرق الصيني، وإيران في الطريق.

ما يختلج به العالم في دواخله لم يكن واضحاً، ولم يكن جليّاً ما تحتويه روسيا، ولا ما تخطّط له لمستقبلها، وكذلك الصين. ربما لم يكن في حسبان أي منهما الشروع بتنفيذ استراتيجياتها، أو الإعلان عنها، بانتظار مزيد من النُضج والتهيئة.

وفي الولايات المتحدة، أزمة كامِنة لم يكن قد اتّضح عُمقها، وتأثيرها في المجتمع الأميركي، لكنه ظهر في نقطتين هامتين، الأولى، ضعف قدرتها على التدخّل في أي مكان في العالم، خصوصاً في ساحة الصراع الأكثر حماوة، والأكثر تأثيراً، أي سوريا، والثانية في إنتاجها لحال رئاسية هجينة، لا تمّت بصلة إلى النظام الأميركي الامبريالي، بوصول مُلتبس -إلى أمد غير منظور- للرئيس الحالي ترامب إلى السلطة، تعبيراً عن عُمق المأزق الذي باتت معالمه غير قابلة للإخفاء في تطوّرات وكوامِن المجتمع الأميركي، وفي النظام الامبريالي المُتهالك تحت وطأة أزماته.

ينخرط الجميع في الصراع في الساحة السورية، كل من خلال تطوّراته، أو تداعياته، ومن خلال استراتيجياته، لكن من دون تخطيط مُسبَق، وبما يمكن وصفه بالتطوّر التاريخي الكامِن لأوضاع العالم المُستجدّة.

تندلع الأحداث السورية، ومع تقدّمها، وتسارعها، تنخرط فيها كل دول العالم، لكن سوريا بقيت، وستظل فترة طويلة من الزمن، اللّغز الذي لم يدركه الآخرون، لسبب قدرتها على الصمود، والتحمّل طيلة هذه الفترة الطويلة من الأحداث، بمواجهة حلف عالمي خبير، مُجهّز، مدعوم بثروات البترودولار، ويزجّ بها مئات آلاف المقاتلين من كل حدب وصوب، وتصمد سوريا، وبصمودها تستدرج الاستراتيجيات المُتهالِكة منها، والأخرى الصاعِدة غير المُلعنة، إلى ساح الصراع، كأنها توقظ كلا منها على ما يتهدّدها من قِبَل الآخر.

صمود سوريا، النظام المُحنّك والخبير، بجيشه المُميّز بفنائه، ووطنيته، وتماسكه، مدعوماً بالشرائح الأكبر من شعبه، أمّن فترة زمنية كافية لصمود ساحة الصراع، وعدم انهيارها أمام قوى هاجمة، ومُخطّط لها، فاستدرجت إلى حلبة الصراع مَن كان غير مُهيّأ لها، ولا يفكّر بالانجرار إليها، وتحديداً الدولتين العُظميين الأكثر استهدافاً من الولايات المتحدة الأميركية وتحالفها، أي روسيا والصين.

شراسة الصراع اللامُهادِن، واللامتردّد، الذي شهدته سوريا، ولمّا ينتهِ بعد، تعبير عن الشعور بالخطر الكبير للدول المُنخرطة فيه، كل من الآخر. إنه أشبه بصراع وجودي، صراع موت أو حياة. وفي قلب الصراع، تبلورت مواقع الدول الجديدة، وقدرات الدول الأخرى، وتكشّفت في ثناياه استراتيجيات هذه الدول، ليتبيّن أنها تخطّط للعبور إلى العالم من بوابة الشرق الأوسط، وتحديداً قلبه النابض، سوريا، وباتت ترسم معالم خطّطها بالتدرّج، وتعقد الصفقات والتحالفات مع مختلف الدول لاستخراج النفط، والتجارة، والتسليح. ولا يُخفى دور إيران التي تدخّلت مُبكراً لدرء الخطر عن سوريا، وهي تطوّر تكنولوجياتها، وعلومها على صُعُد مختلفة.

سينتهي الصراع في سوريا قريباً، لكن عالماً آخر قد نما وتطوّر، فمع تطوّر الأحداث، وباقتراب نهاية الأحداث السورية، والعراقية، ودَفْن مشاريع "الربيع العربي"، بدأت تتفتّق بعض الاستراتيجيات الجديدة لدى الدولتين العُظميين روسيا والصين، من نوع مُتعارِض مع السائد، ومن معالمه إحياء خط الحرير بين الصين والمشرق العربي وأوروبا، وإنشاء خط بحري في الشمال من الكرة الأرضية، مُنافساً استراتيجياً للخط التاريخي التقليدي الذي يربط بحر الصين بالبحر الأبيض المتوسّط عبر قناة السويس، وبين الخطّين، تحويل لمسير الحركة التجارية الجديد بما يخدم أساساً مصالح الدول الرائِدة  والمُديرة للخط، والمُحّولة للعالم إلى عالم آخر.

إضافة إلى ذلك، تلحظ الاتّجاهات المُتنامية في الدولتين لاعتماد تكنولوجيا تواصل (أنترنت) وبرمجيّات خاصة، بمعزل عن التكنولوجيا الأميركية المُسيطرة منذ أكثر من عقدين، وإعادة العمل بالعملات الوطنية والتبادُل بها، والاتجاه إلى توسّع الاعتماد على احتياطي الذهب بديلاً من الدولار، ومظاهر أخرى كثيرة تؤشّر إلى أن عالماً جديداً قد نما وبدأ بالتطوّر، مُثبّتا أقدامه بقوة على وجه الكرة الأرضية، شبيه لِما أسّسته الثورة الصناعية في أوروبا أواسط الألفية الثانية، وقبل تحوّلها إلى التوحّش الامبريالي في أواخره في القرن العشرين.

عالم جديد بدأ بالتكوّن خارجاً من رحم الأحداث السورية، تُعاد فيه الحياة إلى دولة الرعاية، وأنظمة الحكم الوطني، مؤملاً بمستقبل أكثر تطوّراً، وعدالة، من نظام العولمة السائد تحت سيطرة التكنو -دولار، والبترو -دولار، وسيكون فيه الإنسان أقل عُرضة لوحشية التراكم المالي الهائل، وعبوديّة المصارف، والاستلاب بتكنولوجيا الأنترنت، والهواتف الذكية، التي عبرها سقطت حُرمة الأوطان، والمنازل، والأفراد، وامتدّت يدها إلى كل تفاصيل حياة الناس، في كل أرجاء العالم، وحوّلت ثقافات البشرية المُتعدّدة، والمُتنوّعة، والخلاّقة، إلى ثقافة العولمة الوحيدة الهجينة الاستهلاكية لا همّ لها سوى التنصّت على العالم، واستهلاك أدواتها كمصدر أساسي لاستمرارها. 

شؤون وتطوّرات دولية متعدّدة تُعتبر تحوّلاً في التاريخ البشري الراهن، بما لم يكن ظاهراً أن أحداً كان يخطّط له، أو يتوقّعه، تخرج متعمّدة بسيول دماء الأحداث السورية، والتضحيات البطولية التي دفعت فيها، ويتحوّل مسار التاريخ الجاري، والمقبل، إلى شرق جديد، وفجر عالمي جديد.