بعد مؤتمري إيران وتركيا: أين الأزهر من فلسطين؟

إن أخطر ما يواجه الأزهر كدور تجاه فلسطين، هو أن يتم التعامل معه، على أنه مجرّد مؤسسة وظيفية، مؤسسة يُعيّن العلماء فيها بقرار ويفصلون بقرار ويتبعون الحاكم وهواه وسياساته ولا يتبعون الأمة ومصالحها، ولو علم الحكام.. لو علموا.. فإن أحد مصادر قوتهم ومنعتهم في مواجهة هجمات الخارج (وبخاصة الغزوة الصهيونية) هي في حمايتهم لاستقلالية الأزهر واستقلالية علمائه وفي عدم التعامل معهم كمجرّد موظّفين، وتركهم وشأنهم الديني تجاه قضايا الأمّة وفي مقدمها قضية فلسطين.

المؤتمر السادس لدعم الانتفاضة في طهران يأتي بعد الكلام الحاد للرئيس الأميركي دونالد ترامب
يُعقد فى طهران (في إيران) واسطنبول (في تركيا) هذه الأيام مؤتمران لدعم الشعب الفلسطينى ومواجهة الهجمة الصهيونية عليه خاصة بعد تولّي ترامب رئاسة أمريكا وبعد سلسلة تصريحاته القاتلة للحق الفلسطينى، وسط خيبة عربية شديدة الاتّساع، وبخاصة من الدولة التي تدّعي رعاية المقدّسات الإسلامية (مملكة آل سعود)، والتي لم تعد تنكر تعاونها الاستراتيجي الآن مع إسرائيل (تصريحات عادل الجبير وزير الخارجية السعودي في مؤتمر ميونيخ للأمن هو أحدث نموذج لذلك)، ومن مصر التي ارتبط بها تاريخياً الوقوف في وجه التحدّي الصهيوني، وبدأ هذا الموقف يتراجع (وأحدث مثال ما نشر عن لقاءات سرّية بين القيادات المصرية وبين نتنياهو في العقبة الأردنية في فبراير 2016).

 

في هذا الوقت الذي يعقد فيه المؤتمران (فى إيران 21/2/2017) وتركيا (25/2/2017) وطبعاً شتّان ما بين الدولتين في موقفهما من الشعب الفلسطيني، فالأولى (إيران) مؤيّدة ومساندة وبقوة على طول الخط منذ الثورة الإسلامية 1979 وحتى اليوم (2017)، والثانية (تركيا) انتهازية وتلعب بالورقة الفلسطينية لخدمة مصالحها مع واشنطن وإسرائيل التى تقيم معها علاقات عسكرية (7 مليارات دولار سنوياً) وسياسية (سفارة وقنصلية) واقتصادية (11 مليار دولار سنوياً)، نقول شتّان ما بين الدولتين، لكن يقف المراقب مندهشاً أنه في هذا الوقت الذي نعقد فيه هكذا مؤتمرات، ويرفع أصحابها لواء المساندة للشعب الفلسطينى، تصمت العديد من الدول العربية، وبداخلها المؤسسات الرائدة التاريخية التي كان لها من قبل صوت مجلجل في مساندة الحق والقضية الفلسطينية، وأخصّ بالذكر هنا مصر وأزهرها الشريف .. لماذا هذا الصمت غير البليغ ؟ أين هما من فلسطين وأين شيوخ الأزهر تحديداً من أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ؟!.

دعونا نناقش هذه القضية المحورية..

 

 كان ولايزال الأزهر الشريف، أكبر من مجرّد مسجد أو جامعة، أو مكان، إنه قيمة، ودور ومن لم يفهم ذلك من رجالات الأزهر، وبخاصة قادته وقع في خطأ عظيم، ترتّب عليه العديد من المشكلات التي أضرّت في المحصّلة الأخيرة بمصالح الأمّة، ودور وسمعة هذا الرمز الإسلامي الشامخ.

 واليوم.. عندما تعلو الصيحات : أين الأزهر ؟ أين هو والأمّة تذبح من الوريد إلى الوريد؟ أين هو وزمن (داعش) يعلو ويدمّر ليس الأوطان فحسب بل والإسلام ذاته؟ يلتفت الخبراء والعالمون ببواطن الأمور إلى قيادة الأزهر، ويضعون عشرات من علامات الاستفهام، التي تطالب بالإجابة بعد أن استبدت الحيرة بالعقول والأفهام من تلك المواقف المضطربة لهذه القيادة تجاه قضايا الأمّة الهامّة خاصة بعد هذا الربيع العربي الدامي، وعلى رأسها : قضية فلسطين.

الأزهر وفلسطين سيظلاّن رغم كل الاختلالات والهنّات التي أحدثتها السياسة متلازمان
إن الأزهر.. إذا ما فهم كقيمة، ودور فإن (فلسطين) كانت دائماً حاضرة عبر تاريخه المديد، حاضرة كأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وحاضرة كأطهر وأقدس أرض إسلامية، وكمسرى للنبى محمّد r ، وحاضرة كوطن عربي / إسلامي تم اغتصابه عنوة من ربوع الإسلام ليصير شوكة في ظهر هذه الأمّة من خلال الغزاة الذين يحتلونه اليوم (مثل أسلافهم إبّان حروب الفرنجة التي بدأت عام 1096م)، وفي وثائق ومواقف الأزهر منذ زرع هذا الكيان الصهيوني في قلب فلسطين، ما يؤكّد فلسطينية الأزهر وجهاديته ضد المحتل الصهيوني!!.

 

الأزهر، هنا، كان دائماً، يأتي كضمير محرّك، ورافض لما جرى – ولايزال يجري – في فلسطين، خاصة خلال السبعين عاماً الماضية، وما كان من علمائه الثقاة إلا أن قادوا حركة الأمّة، عبر الفتوى، بل و(سابقاً) عبر التطوّع" الجهاد وبذل الأموال والأنفس، للدفاع عن فلسطين ومقاومة الغزوة الصهيونية، وظلّ (الأزهر) لذلك هدفاً للطعن والاختراق من قبل الصهاينة ومن والاهم من المثقفين و(العلماء !!) والساسة العرب؛ لكنه وعبر قياداته الواعية القابضة على دينها؛ مستعصياً على هذا الاختراق، خاصة القيادات في زمن جمال عبدالناصر، ورغم كل محاولات التسوية السياسية التى جرت منذ توقيع كامب ديفيد وبدء التطبيع بين النظام المصري والكيان الصهيوني في (1979) وحتى اليوم (2017)، والتي كان من بينها شروطها؛ ضرب أو تحييد – على الأقل – دور الأزهر (التحريضي) كما أسماه حاخامات العدو الصهيونى وقادته العسكريين والسياسيين.

 

لقد ظل الأزهر مستعصياً على الاختراق، ورغم بعض الهنات لبعض (المشايخ !!)، إلا أنه وفي مجمله، لايزال صامداً صلباً، في مواجهة الهجمة الصهيونية متعدّدة الأشكال والوسائل التي تستهدف اقتلاع دين الأمّة عبر اقتلاع وتدمير مؤسساتها ورموزها الإسلامية ومنارات العلم والفتوى فيها، وعلى رأسها الأزهر الشريف.

يحدّثنا التاريخ أيضاً أن ثمة محاولات عديدة لاختراق الأزهر صهيونياً خاصة على زمن السادات وحسني مبارك ولعلنا نتذكّر هنا بعض شيوخ الأزهر الذين استقبلوا السفير الصهيوني أو أفتوا بجواز الصلح مع إسرائيل وكان ذلك إبان عهد أنور السادات، ولكنهم كانوا قلّة بين "الشيوخ"، وفي زمن حسني مبارك حدث ما يشبه ذلك، وهنا نتذكّر على سبيل المثال (لقاء الإسكندرية – الذي عقد خلال شهر يناير 2002) وسُمّي بحوار الأديان، وكان أحد أبرز هذه المحاولات التي أريد فيها توريط الأزهر من خلال (شيخه الإمام الأكبر) في بيانات تدين العمليات الاستشهادية في فلسطين، وترسيخ اغتصاب دولة هؤلاء الحاخامات (الذين حضروا المؤتمر)، لفلسطين.

هذا اللقاء، وغيره من المواقف المضطربة لبعض مشايخ الأزهر، رغم سوئها، إلا أنها في تقديرنا كانت تصدر عن عدد قليل من قيادات الأزهر ولم تكن وفقاً لدراسات علمية وفقهية دقيقة، لا تعبّر، عن جوهر رسالة الأزهر ودوره وقيمته، إذ لاتزال هذه الرسالة قائمة، ولايزال عطاء الأزهر ومواقفه النبيلة تجاه القضية الفلسطينية، نموذجاً فذاً على قدرة العلماء على قيادة حركة الأمّة والجماهير في الاتجاه الصحيح؛ و(الهنّات الصغيرة) لا ينبغى لها أن تحول دون نظرتنا الكلية للدور الكبير للأزهر تجاه فلسطين والذي تراجع هذه الأيام إلا أن الأساس المتين لايزال موجوداً، فقط يحتاج إلى إيقاظ للدور وتنبيه للعقل الأزهري المستنير ومن بين وسائل التنبيه، ضرورة الالتفات اليوم – 2017 – إلى مكمن الخطر الذي يستهدف الأزهر كمؤسسة وكرمز إسلامي، وهو خطر يتمثل في محاولات (وهبنته) و(سعودته) أي إجباره على إتباع (الوهّابية) كدعوة متطرّفة وشاذّة، والعطايا السعودية المُرة والخطرة، فضلاً عن محاولات تحجيمه بل وضربه حتى يُفرغ تماماً من معانيه التاريخية العظيمة.

 

إن أخطر ما يواجه الأزهر كدور تجاه فلسطين، هو أن يتم التعامل معه، على أنه مجرّد مؤسسة وظيفية، مؤسسة يُعيّن العلماء فيها بقرار ويفصلون بقرار ويتبعون الحاكم وهواه وسياساته ولا يتبعون الأمة ومصالحها، ولو علم الحكام.. لو علموا.. فإن أحد مصادر قوتهم ومنعتهم في مواجهة هجمات الخارج (وبخاصة الغزوة الصهيونية) هي في حمايتهم لاستقلالية الأزهر واستقلالية علمائه وفي عدم التعامل معهم كمجرّد موظّفين، وتركهم وشأنهم الديني تجاه قضايا الأمّة وفي مقدمها قضية فلسطين.

إن في ذلك (منعة للحاكم) وللأمّة معاً، لأن مؤسسة العلم والتقوى والدين والفتوى، مستقلة ولا تخشى في حركتها إلا الله، وهنا سيشعر العدو بحاخاماته ومن يماثلهم في الغرب، أن لدى هذه الأمّة مصادر للقوة وللمواجهة لا تتحرّك وفقاً لهوى هذا الحاكم أو ذاك، ومن ثم سيخشانا وسيفكّر عشرات المرات قبل أن يحاول النيل من مصالحنا وقِيَمنا وديننا.

 

إن الأزهر وفلسطين سيظلاّن رغم كل الاختلالات والهنّات التي أحدثتها السياسة (منذ قانون تطوير الأزهر رقم 103 الصادر في 22/6/1961) متلازمان، وسيظل الأزهر (ومعه باقي المؤسسات الدينية والعربية والإسلامية) هو "العقل" الذي يحرّك الأمّة تجاه ضميرها الحي، الذي يطالبنا بالحركة ويطالبنا بتحرير فلسطين، من البحر إلى البر كما تقول حقائق التاريخ والإسلام وفتاوى علماء الأزهر الكبار، ولن تنجح أية محاولة – بإذن الله – لشق هذا التلاحم بين القطبين (الأزهر وفلسطين).

 

لكل هذا .. دعونا نعيد السؤال: أين الأزهر من فلسطين ؟ ليس بهدف التقليل من شأن الأزهر ودوره، أو الاستفهام والاندهاش لغيابه، بل استنهاضاً لهذا الدور، ودفعاً به لأن يكون حاضراً اليوم وقوة وسط (انتفاضة السكاكين والدهس) التي يخوضها هذا الشعب الفلسطيني المعلم!

 إن فلسطين، وأمتها العربية والإسلامية، يطلبون من الأزهر (إماماً أكبر وشيوخاً وجامعاً وجامعة) أن يعيدوا البوصلة السياسية والدينية للأمة للاتجاه الصحيح؛ ثانية ناحية الأقصى وفلسطين، فلقد حرفها (الربيع العربي الزائف) من خلال دواعشه وأتراكه ومتسعوديه، وآن للأزهر ومن صار على درب الاعتدال والوطنية الحقة، أن يعيدها إلى موقعها الصحيح.. فهل يبدأ؟!