أأنتم بلا انتماء نهائيّاً؟

عدونا هو هو، لم يتغيّر، أميركا صاحبة تلك الصواريخ، والكيان الصهيوني الذي يسقطها على الأبنية والناس، ذلك الكيان المحمي والمموّل والمزوّد بكلّ الأسلحة التي تبيد الفلسطينيين خصوصاً، والعرب المقاومين عموماً.

  • أصوات قليلة حذّرت من أوهام
    أصوات قليلة حذّرت من أوهام "أُوسلو" ووعود أميركا الخُلّب التي امتدت حتى "طوفان الأقصى".

لست أنتظر الجواب على سؤالي الموجّه كما هو واضح إليهم، أقصد إلى مثقفين يدّعون أنهم مشغولون بالأسئلة العميقة التي لا تنشغل بكلّ ما هو مباشر وآني!

عرفت هؤلاء وأسئلتهم التضليلية منذ كنّا في بيروت، بينما المعركة محتدمة مع من يحاصر بيروت، من صبّ عليها صواريخ فراغية جعلت الفراغ، بالأصح تفريغ البناية من الهواء يبتلعها، علماً أنها بناية من ست طبقات بمن فيها، وتطمسها عميقاً في التراب وتدفنها في الرمل وكأنها لم تكن!

عدونا هو هو، لم يتغيّر، أميركا صاحبة تلك الصواريخ، والكيان الصهيوني الذي يسقطها على الأبنية والناس، ذلك الكيان المحمي والمموّل والمزوّد بكلّ الأسلحة التي تبيد الفلسطينيين خصوصاً، والعرب المقاومين عموماً.

في تلك الأيام، أيّام معركة بيروت 1982، تقدّم عدد من الصحفيين والكتّاب والمثقفين الفلسطينيين والعرب ممن كانوا في بيروت، وانهمكوا في الكتابة لجريدة "المعركة" التي صدرت يوميّاً، وكان هناك من يوزعها على محاور القتال ويوصلها تحت النار فيتلقفها المقاتلون الصامدون وجهاً لوجه مع حشودات "جيش" العدو الذي كان يتربّص ببيروت الغربيّة.

أما بيروت الشرقية فكانت صديقة قوات العدو التي كان يقودها شارون الذي عرفنا في تلك الأيّام أنه كان يصعد على سطح فندق "ألكسندر" ليتأمل بيروت الغربية وهي تحترق بنيران مدافع "جيشه" وصواريخه التي كانت تزوّده بها أميركا التي تدّعي أنها (وسيط) نزيه، في حين أنها كانت تتلهف على هزيمة المقاومة في بيروت الغربيّة، المقاومة الفلسطينيّة واللبنانية التي تواصلت حتى رحيل المقاومين الفلسطينيين وتوزيعهم في بلاد العرب التي يحكمها من لم يقدّم شيئاً لبيروت الغربية وعربها الفلسطينيين واللبنانيين، باستثناء الجيش العربي السوري (اللواء 85) والجيش الذي تقدم عبر الحدود وخاض معارك قاسية مع "جيش" الاحتلال في الجبل وباتجاه الجنوب اللبناني.

وجد في بيروت كتّاب كثيرون، قلة انحازت إلى المقاومة وكتبت للمعركة، وانحازت إلى إذاعة الثورة الفلسطينيّة، وإذاعة صوت لبنان العربي المرابطية اللبنانية، واختفى كثيرون، أو لاذوا بالهرب عن طريق بيروت الشرقيّة! ومنهم من كان يدّعي الثورية والتقدميّة واليسارية، وفي اختبار بيروت المقاومة سقطوا سقوطاً يليق بالكاذبين المدعين.

في 7تشرين الأول/ أكتوبر، لم نسأل أنفسنا عن هوية من فجّر "طوفان الأقصى"، لأننا انتظرناه، وأملنا أن نراه يحدث ونحن أحياء خاصة وقد تقدمنا في العمر، وامتلأت قلوبنا بالمرارة ونحن نرى ما فعله التوقيع على اتفاق أوسلو في حدائق البيت الأبيض يوم 13أيلول/سبتمبر 1993 والذي خدع العرب الفلسطينيين بالرعاية الأميركيّة، ثم بالتضليل المتواصل والخداع الأميركي، والتسكين ببعض الوعود الوهمية والمساعدات التافهة، بينما جرافات الكيان الصهيوني وبحماية "جيشه" تبتلع الأرض الفلسطينيّة، والناس مشدوهون في حيرة فهم وضعوا في حصار وحالة تيه، وكثير من دول العرب تُغلق عليهم ولا تمنحهم الأمل والتنفّس. وامتدّ زمن الحيرة والتيه والضياع حتى فجر الـ 7 من تشرين الأول، وفجأة أيقظ الطوفان الشعب العربي الفلسطيني الذي يقاوم منذ اجتاح الاحتلال البريطاني فلسطين حاملاً "وعد بلفور" لتنفيذه بقهر الفلسطينيين الذين لم يتلكأوا بقتاله حتى عام 1948.

أُوقف القتال وطورد أبطال فلسطين، وألجموا إلى أن انبثقت المقاومة وأطلقت الرصاصة الأولى الموقظة يوم 1/1/ 1965، وبدأ فجر فلسطيني جديد نعرف مآلات تبديده والغرق في متاهة الأوهام.

المثقفون الفلسطينيون كان لهم دور، ومنهم من استشهد، أو جُرح، وكتبوا شعراً ونثراً. وبرز منهم من لا يمكن أن يُنسوا، وفي المتاهة بعد بيروت، وتشرّد ما بعد بيروت، لمع منهم من انخرط في الانتفاضة الكبرى التي امتدت حتى (أوسلو)، والتيه الذي ابتلع انتفاضة أذهلت العالم، وأيقظت الوطن العربي على إبداعات زمن الحجارة!.

أصوات قليلة حذّرت من أوهام "أُوسلو" ووعود أميركا الخُلّب والتي امتدت حتى بزغ فجر "طوفان الأقصى" الذي ملأ نوره سماء العالم، وأيقظ ضمائر أولئك الذين لم يحتملوا جرائم الكيان الصهيوني المتوحش، فانفجرت الجامعات غاضبة في ولايات أميركا، بداية من نيويورك، وبخاصة جامعة كولومبيا، لتمتد إلى واشنطن وأبعد منها في كل ولايات أميركا متحدية القمع رافعة شعاراً مبدئيّاً: دولة فلسطينية من النهر إلى البحر.

وليس هذا بالشعار المتطرّف، ولكنه شعار مبدئي منصف لفلسطين وشعبها الرافض للصهيونية ولعنصريتها، وها هو ينتشر في جامعات العالم، والجامعات ومراكز الثقافة، ومشاريع المستقبل الإنساني الأخلاقي الذي ينصف البشر جميعاً، ويرفض الهيمنة والمسخ والقهر والوحشية والعنصرية. وهذه بعض صفات الإمبريالية الأميركيّة المرتعبة من "طوفان الأقصى"، الطوفان المجتاح للعالم، وهو ما لم يكن متوقعاً بعد عقود من تخدير الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وتهميش فلسطينيي الشتات.

فنانون، مفكرون، كتّاب  كبار، أميركيون وأوروبيون، وأساتذة جامعيون، يعلنون انحيازهم إلى شعب فلسطين وحريّته وحرّية وطنه فلسطين، ويدفعون ثمن انحيازهم، بينما حالة صمت تسود جامعات دول العرب إلاّ قليلاً، والمثقفون والكتاب والفنانون غائبون متبلدو الإحساس، فإلى متى حالة الهوان والتفاهة والتساوق مع مشيئة حكّام دول لا هوية لها ولا انتماء؟

أتراكم كنتم تنتظرون من مؤتمر قمّة المنامة الذي يكمل بؤس مؤتمر قمة الرياض العربي الإسلامي أن يدفع بجيوش تنقذ فلسطين وشعبها من الوحشية الصهيونيّة والانحياز الأميركي الذي يضخ المال وكل أنواع الأسلحة بإشراف رئيس أميركا الصهيوني بايدن لمزيد من ذبح الفلسطينيين؟

هم في حقيقة قمتهم يتمنون نهاية الطوفان الذي يتهدد كياناتهم التابعة أميركيّاً، المتصالحة المطبّعة صهيونيّاً، وعنهم تصدر بيانات تافهة مخزية لهم تُعبّر عن تواصل خذلان شعوب الأمة، والتآمر على فلسطين قضية العرب الأولى التي طالما تآمروا عليها.

أمّا أنتم أيها المثقفون فتواصلون غيابكم، كأنكم تأخذون منومات تخدّر وعيكم وتغيّبكم، بحيث لا تسمعون ولا ترون ولا تفعلون. وأسفاه!

فلسطين تمضي إلى مجدها، من جنوبها تأتيها النجدة من أولئك الذين انطلقوا في مقاومتهم من بيروت عام 1982 وهاهم يواصلون بضراوة، هم الذين اكتسحوا الاجتياح واقتلعوه حتى أقصى الجنوب ورموا أدوات الاحتلال في حضنه مرذولين مهانين، وها هم بمقاومتهم يفرّغون كل مستعمرات الشمال ويحوّلون سكّانها إلى لاجئين في بلاد ليست لهم. وفي أقصى بلاد العرب، اندفع اليمنيون وأغلقوا البحر الأحمر وحرموا ميناء أم الرشراش(إيلات) الفلسطيني من وصول سفن شحن البضائع

إلى الكيان الغاصب. ومن العراق تنطلق صواريخ المجاهدين لتقصف في الجولان، وفي عمق فلسطين.

أكل هذا لا يحرك وعيّكم، وانتماء نسيتم روعته وعظمته وكبرياء من يعتنقه!

هل ستواصلون تضييع الفرصة التي انفتحت لكم، والتي تمنح كل من يعتنقها ويعمل بهديها احترام شعبه وأمته. فرصة تمنح للمثقف المنتمي السائر في مقدمة شعبه وكلمته ودمه على كفّه كما لو أنه غزّاوي حقيقي، ينتمي إلى فلسطين التي باتت قضيّة الإنسانية فتمتلئ نفسه بالكبرياء والفخر. فهذا ما تمنحه فلسطين لكلّ من ينتمي إليها، بأي لغة يهتف لها، وإلى أي بلد وأمة ينتمي. فلسطين اليوم قضيّة البشريّة جمعاء، ألستم من هذا العالم!