أين وصل الصراع الأوراسي - الأطلسي؟

مع تمكّن الأوراسيين من إسقاط المشروع الأطلسي في عدد من دول الفضاء الأوراسي، كإيران وكازاخستان وأفغانستان، وفي دول جنوبي القوقاز، كان لا بد لهم مؤخراً من مواجهة هذا المشروع في الشرق الأوسط.

  • طوفان الأقصى أجهض أخطر مشروعين خبيثين للأطلسيين.
    طوفان الأقصى أجهض أخطر مشروعين خبيثين للأطلسيين.

"العالم هو شرقي روسيا وغربي روسيا"؛ كان هذا جواب الرئيس الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عندما سُئل يوماً عن موقع روسيا في العالم، وهل هي دولة شرقية أم غربية، ويعني بذلك أنّ بلاده هي مركز العالم، وأن الشرق والغرب من حولها ويجتمعان فيها مع المحافظة على الخصوصية الروسية، التي إذا ما أُضيفت إلى الجغرافيا السياسية لروسيا الاتحادية فإنها ستؤهل روسيا لقيادة العالم عبر تحالف أورو ـ آسيوي.

دأب الرئيس الروسي بوتين على استخدام مصطلح الأوراسية، منذ وصوله إلى الحكم قبل 25 عاماً متأثراً بأحد أهم المنظّرين والمفكرين الروس، ألكسندر دوغين، الذي قيل فيه إنه "دماغ بوتين"، و"أبو الأوراسية الجديدة".

ووفقاً للمفكر ألكسندر دوغين، فإن المفهوم الأوراسي يمكن أن يشكل إطاراً واسعاً يمتد من أوروبا إلى المحيط الهادي، مرورا بآسيا الوسطى، وصولاً إلى الجنوب في اتجاه الصين ودول جنوبي شرقي آسيا، وإلى الشرق الأوسط. ومن أجل ذلك يدعو دوغين إلى ضرورة البحث عن إطار جامع لذلك الفضاء الشاسع يشمل الاقتصاد والأمن والإنسانية، وصولاً إلى البحث عن إطار هوياتي اجتماعي جامع لمواجهة الليبرالية الغربية الجديدة والمتوحشة، فكراً ونهجاً.

عمدت روسيا بدايةً إلى إنشاء الاتحاد الأوراسي من ثلاث دول (روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان)، قبل أن تنضم إليه لاحقاً كل من أرمينيا وقرغيزستان. وكان من أهم مقرراته إلغاء الرسوم الجمركية بين أعضائه.

لاحقاً، خلال أعوام مضت، حرص بوتين على طرح مفهوم الشراكة الأوراسية الكبرى، أو ما بات يعرف بالأوراسية الجديدة من خلال الربط مع الجوار الأوراسي، بداية بين اوراسيا ومبادرة "الحزام والطريق" الصينية، ثم بين أوراسيا والهند عبر اتفاقية تجارة حرة، وبين الاتحاد الأوراسي ومنظمة شنغهاي التي انضمت إليها إيران مؤخراً، والتي ينظر كل من بوتين ودوغين إليها كدولة حليفة لروسيا.

ولا يخفي المفكر دوغين إعجابه بنظام الحكم في إيران، وينادي بضرورة تغيير التحالف القائم بين الدول الإسلامية في الشرق الأوسط وبين الأطلسيين الليبراليين، ويدعو إلى ضرورة انتصار روسيا في الشرق الأوسط كشرط لازم لضمان استقرار الفضاء الأوراسي.

وعلى النقيض من ذلك، يرى المفكر الاستراتيجي الأميركي، وأحد أهم منظري السياسات الغربية، زبغينو بريجنسكي، في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى"، والصادر في عام 1997، أن تفجير اوراسيا - تلك الجغرافيا المترامية والواسعة الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى أوروبا غرباً، مروراً بدول وسط آسيا ومنطقة القوقاز وإيران وهضبة الأناضول - والتدخل فيها لاحقاً يمثّلان شرطاً لا بد منه لضمان استمرار التفرد والهيمنة الأطلسيين من أجل قيادة العالم. ويدعو بريجنسكي إلى بلقنة دول منطقة القوقاز وأوراسيا، التي تضم أكثر من 400 مليون نسمة، وتحويل ذلك إلى هدف للولايات المتحدة من خلال تدخلها في الصراعات التي يمكن لها إشعالها داخل دول هذه المنطقة، وبين مكوناتها. ويطرح بريجنسكي في رأس القائمة ثلاث دول هي إيران - كازخستان - تركيا.

في المقابل، يرى دوغين أن الأوراسية، بالإضافة إلى حاجتها الحتمية إلى إيران ذات الجغرافيا المترامية والممتدة من وسط آسيا إلى غرببها، وجنوباً بإشرافها على الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي، لا معنى لها إن لم تضمن لنفسها امتداداً في كل من أوكرانيا وسوريا، منطلقاً من أن هزيمة المحور الشرقي وتفكك الاتحاد السوفياتي في القرن الماضي كانا انتصاراً لحلف البحر الأطلسي على حلف البر السوفياتي، وهو بذلك يولي الجغرافيا أهميتها في السياسة والصراع، بل إنه يرى أن لا قيامة للأوراسية بلا جغرافيا البحار، وبالتالي بلا أوكرانيا، التي تضمن للأوراسية بوابة كبيرة على البحر الأسود، وبلا سوريا، التي تضمن لها بوابة ثانية رئيسة على البحر المتوسط، بالإضافة لإيرا،ن التي تضمن للأوراسية بوابة ثالثة على مياه الجنوب.

وبالتالي وفقاً لدوغين، فإن أوكرانيا وسوريا تشكلان خطَّي الدفاع الأول والثاني عن الأوراسية، التي لا يمكن قيامها من دونهما، حتى لا يتكرر انتصار حلف البحر على حلف البر. لذلك، فإن الانتصار في أوكرانيا يشكّل خيار الضرورة، والذي لا يقبل البدائل. والانتصار في سوريا هو البديهة الجيوسياسية، والتي لا تحتمل غباءً استراتيجياً.

لذلك، فإن من غير المسموح مطلقاً لأوكرانيا أن تكون دولة حليفة للأطلسيين، وليس أمامها إلا أن تكون حليفة لروسيا، أو أن تنحو نحو الحياد.

ويبرر دوغين ذلك بالقول إن "الربيع الروسي" يستحيل من دون محور أوراسي في أوكرانيا، بغض النظر عن الشكل، سلمياً كان أو لا. وفيما يخص سوريا، يقول دوغين إن "سوريا هي الهدف الأبعد، لكنها ليست أقل أهمية من أوكرانيا. سوريا هي خطنا الخارجي للدفاع".

لقد أدرك الرئيس الروسي بوتين، منذ وصول الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، إلى البيت الأبيض في عام 2020، والذي أعاد صياغة الاستراتيجية الأميركية، أن تلك الاستراتيجية جرت صياغتها وفقاً لأفكار المفكر الراحل زبغينو بريجنسكي وخططه، وجرى استلهامها من كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى"، فكان لا بد من اعتماد استراتيجيات روسية جديدة لمواجهتها، واتخاذ قرارات حاسمة لإسقاطها، من أجل المحافظة على الحلم الأوراسي وتحقيقه. وبدا ذلك واضحاً من خلال التدخل الروسي الحاسم، عسكرياً ودبلوماسياً، في كل من جورجيا والقرم وكازاخستان، وفي الشيشان والقوقاز وسوريا، وعبر الدور الروسي في الملف النووي الإيراني. والأهم من ذلك كان العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، والتي انطلقت منذ أكثر من عامين في مواجهة الحرب بالوكالة، والتي يشنها الغرب الجماعي ضد روسيا بواسطة النظام النازي في أوكرانيا.

ما زال الصراع بين الأطلسيين والأوراسيين، كما يفضل دوغين وصفه وتعريفه، ينتقل من ساحة إلى أخرى ومن ميدان إلى آخر، وفي كل مرة يحاول الأطلسيون خلق بؤر جديدة للتوتر داخل أوراسيا وحولها، يسارع الأوراسيون إلى مواجهتهم وإفشالهم، وفي الوقت ذاته يستمر العمل على بناء الأوراسية الكبرى بتسارع نشط جرى تظهير نتائجه من خلال علاقات الشراكة الاستراتيجية مع كل من الصين والهند وإيران، ومؤخرا منغوليا وأذربيجان، وفي الشرق الأوسط، من خلال التشبيك الاقتصادي مع السعودية والإمارات ومصر، وصولاً إلى شمالي أفريقيا، عبر الشراكة مع الجزائر وغيرها، وكل ذلك ضمن أطر وهيئات ومنظمات ومشاريع سياسية واقتصادية وتجارية ومالية، وحتى عسكرية، كمنظمة شنغهاي ومجموعة بريكس، أو عبر خطوط الطاقة والنقل، كممر شمال - جنوب، وكخط غاز قوة سيبيريا، والذي يمتد من روسيا إلى الصين.

مع تمكّن الأوراسيين من إسقاط المشروع الأطلسي في عدد من دول الفضاء الأوراسي، كإيران وكازاخستان وأفغانستان، وفي دول جنوبي القوقاز، كان لا بد لهم مؤخراً من مواجهة هذا المشروع في الشرق الأوسط، وتحديداً في فلسطين وتركيا.

أما في فلسطين فجاء طوفان الأقصى ليُجهض أخطر مشروعين خبيثين للأطلسيين، الأول كان مشروع "الممر الهندي - الشرق أوسطي - الأوروبي"، والذي جرى تخطيطه ليكون بديلاً من المشاريع الأوراسية. والثاني مشروع السيطرة الإسرائيلية على كامل فلسطين المحتلة، والذي يهدف إلى هيمنة الكيان الإسرائيلي على الشرق الأوسط. والمشروعان تجري مواجهتهما عبر طوفان الأقصى وجبهات محور المقاومة المتحالف ضمناً مع روسيا.

أما ما يخص تركيا، فلعلها الميدان الأخير الذي سيحكم نتيجة النزال، نظراً إلى ما تمثله الجغرافيا التركية من عامل ربط حتمي بين البوابات البحرية الثلاث لأوراسيا، الأوكرانية والسورية والإيرانية، حيث البحر الاسود والبحر المتوسط ومياه الجنوب "الخليج والمحيط الهندي".

والمحور الأوراسي يسعى جاهدا لاحتواء تركيا وإبعادها عن المحور الأطلسي، وتجلى ذلك بداية في صيغة آستانة، وتطور لاحقاً مع إعلان تركيا رغبتها في الانضمام إلى مجموعة بريكس، بحيث ستجري مناقشة ملف انضمامها في قمة المجموعة المقبلة، والتي ستُعقد برئاسة روسيا في مدينة قازان الروسية. وعلى الرغم من أن تركيا ما زالت عضواً في الحلف الأطلسي، منذ عام 1956، فإن الرهان الأوراسي على الفوز بتركيا يبدو اليوم أكثر قابلية للتحقيق، وفقاً لما تفرضه مستجدات التحولات العالمية والصراع المستمر نحو عالم جديد متعدد الأقطاب، وعوامل التشبيك، اقتصادياً وتجارياً ومالياً وأيديولوجياً.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.