اتفاق بلا ضمانات: مأزق وقف إطلاق النار في غزة ولبنان
وقف إطلاق النار كما هو قائم اليوم، يعيد إنتاج المعادلة ذاتها التي حكمت المنطقة منذ عقود: تفاهمات مؤقتة بلا ضمانات، ومحاسبة مؤجلة بلا نهاية.
-
لبنان وغزة... اتفاقات بلا أدوات تنفيذ.
منذ اللحظة الأولى لإعلان وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بدت ملامح الإخفاق واضحة. فالسلوك الميداني الإسرائيلي لم يتغير جوهرياً، واستمرار القصف المتقطع وفرض قيود التجويع يؤكدان أن الحرب لم تتوقف فعلياً، بل انتقلت إلى طور أقل كثافة وأكثر ضبابية في توصيفه القانوني والإعلامي. بذلك، يصبح الحديث عن التزام إسرائيلي ببنود الاتفاق مسألة شكلية أكثر منها واقعية.
الانخفاض النسبي في عدد الضحايا لا يعني تحولاً في طبيعة الصراع، بل يعكس تغير الإيقاع العسكري وتبدل أولويات المرحلة. فالمسألة هنا ليست كمية، بل نوعية، من استمرار الحصار، ومنع دخول الإمدادات الإنسانية، واستهداف البنية المدنية، كلها مؤشرات على أن منطق العقاب الجماعي ما زال هو القاعدة.
اتفاق بلا أدوات تنفيذ
تقوم أي تسوية سياسية، بما فيها وقف إطلاق النار، على توازن بين الالتزامات والضمانات. وفي الحالة الفلسطينية، غابت الضمانات بالكامل. فالاتفاق المبرم برعاية أميركية لم يتضمن آلية رصد مستقلة، ولا إجراءات عقابية واضحة في حال الإخلال بالتنفيذ. والنتيجة المباشرة كانت أن الفصائل الفلسطينية التزمت بوقف العمليات العسكرية، بينما احتفظ الجيش الإسرائيلي بحرية حركة شبه مطلقة، وبما أعاد إنتاج المعادلة القديمة: طرف مقيد، وآخر مطلق اليدين.
هذا الخلل البنيوي لا يمكن فصله عن طريقة تعامل الوسطاء مع الطرفين. فقد جرى التعامل مع الضحية والفاعل بوصفهما متساويين في الواجبات، من دون أي اعتبار للتاريخ الطويل للصراع، أو لسلوك كل طرف في احترام الاتفاقيات السابقة. هذه الصيغة التبسيطية مكنت "إسرائيل" من الاستفادة من الهدنة من دون تحمل ثمن سياسي أو قانوني، في حين تحول الالتزام الفلسطيني إلى عبء يقيّد أدوات الدفاع الذاتي.
يرتبط فشل أي اتفاق بعدم وجود كلفة لخرقه. وفي الحالة الإسرائيلية، تشكل الحماية السياسية الغربية، ولا سيما الأميركية، المظلة التي تمنع أي مساءلة جدية. فالقانون الدولي، وإن كان واضحاً في توصيف الجرائم والانتهاكات، يظل مشلولاً حين يتعلق الأمر بآليات التطبيق.
إن غياب الإرادة الدولية لتحريك الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يجعل كل القرارات السابقة حول الصراع العربي–الإسرائيلي بلا أثر تنفيذي. ومع أن خيار استخدام القوة ضد "إسرائيل" غير وارد سياسياً في المرحلة الراهنة، فإن بدائل الضغط الاقتصادي والدبلوماسي تظل ممكنة ومجدية. فحين تشعر تل أبيب أن كلفة الخروقات ستكون سياسية واقتصادية ملموسة، يصبح الالتزام بالاتفاقات مصلحة، وليس تنازلاً.
الزمن الطويل للصراع
يُظهر تاريخ الصراع الممتد منذ عام 1948 أن فكرة المحاسبة غابت تماماً عن التجربة الإسرائيلية في المنطقة. لم تُفرض عليها يوماً عقوبات جدية، ولم تعلق لها اتفاقية رغم الخروقات المتكررة. ومع تراجع فعالية النظام العربي الرسمي وتبدل أولويات القوى الكبرى، أصبح الحديث عن "السلام مقابل الأرض" جزءاً من الماضي. أما اليوم، فقد تراجعت الأجندة العربية إلى الحد الأدنى ألا وهو وقف النار وتخفيف المأساة الإنسانية.
هذا التحول يعكس تبدل موازين القوى أكثر مما يعكس تبدل القناعات. فالدول العربية، بعد عقدين من الصراعات الداخلية وتفتيت الجيوش الوطنية، فقدت القدرة على ممارسة الضغط الإقليمي الفاعل. في المقابل، باتت إسرائيل أكثر انخراطاً في استراتيجيات التوسع والردع، فيما انحازت الولايات المتحدة علناً إلى خياراتها العسكرية بعد أن كانت تقدم نفسها كوسيط.
بحسب البيانات الفلسطينية، فقد تجاوز عدد شهداء القضية منذ نكبة عام 1948 حاجز المئة ألف شهيد، وهو الرقم ذاته تقريباً الذي سجل خلال العامين الأخيرين من الحرب على غزة والضفة الغربية. هذه المفارقة تكشف أن الكلفة البشرية في عامين فقط تعادل حصيلة ثمانية عقود من الصراع، ما يعني أن الهدوء النسبي لا يعكس نهاية الحرب بل تغير شكلها. ففي غياب محاسبة دولية أو ضمانات تنفيذية، يصبح وقف إطلاق النار مجرد مرحلة بين حربين، وليس مدخلاً لتسوية. وبهذا المعنى، فإن "الهدنة" الراهنة تُدار كأداة ضبط إيقاع سياسي، لا كخطوة نحو الاستقرار، الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بتنفيذ القرارات الدولية الخاصة بالصراع العربي-الإسرائيلي.
البديل الممكن
إن أي حديث عن وقف دائم لإطلاق النار يجب أن يقترن بتأسيس آلية رقابية دولية فعالة ذات تفويض ومصداقية واضحين، تتضمن تقارير علنية وإجراءات تصعيدية ضد الطرف المخالف، وتجربة وقف إطلاق النار في لبنان نموذج على ضعف وعجز لجان المراقبة وعدم حياديتها. كما ينبغي أن يربط أي دعم لإعادة الإعمار أو التعاون الاقتصادي بمؤشرات احترام القانون الدولي.
أما على المستوى العربي، فإن ورقة الضغط الوحيدة المتبقية تكمن في إعادة تفعيل أدوات القوة السياسية والاقتصادية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وربط التعاون الإقليمي بمدى التزامهم بإلزام "إسرائيل" بالقانون الدولي. فالرهان على حسن النية أو على مبادرات "التهدئة المرحلية" أثبت محدوديته في كل التجارب السابقة.
إن وقف إطلاق النار، كما هو قائم اليوم، يعيد إنتاج المعادلة ذاتها التي حكمت المنطقة منذ عقود: تفاهمات مؤقتة بلا ضمانات، ومحاسبة مؤجلة بلا نهاية.
وبهذا، لا يصبح الصراع قابلاً للتسوية، بل قابلاً للتكرار. وما لم تدرك العواصم العربية أن استمرار هذا النمط سيجعل النار تمتد إلى ما وراء حدود غزة ولبنان، فإن المنطقة ستظل تدور في مدار أمني مغلق تحكمه القوة لا القانون، والوقائع الميدانية لا الاتفاقيات.