استشهاد السيد نصر الله... من يحمل رسالة المقاومة؟
يعيش حزب الله اليوم أخطر استهداف في تاريخه، لكنّ عناوين معركة اليوم هي ذاتها عناوين كلّ المعارك في تاريخ لبنان الحديث؛ خارجياً حيث العدوان والتضييق والتهديد، وداخلياً حيث العمالة والارتهان والمقامرة بلبنان وأهله والنكران.
-
إلى اللقاء يا شهيد الشرفاء والأحرار.
لا شيء يضاهي ألم الفقد وحسرة الفراق غير الفخر بالشهادة وبعظمة الدرب الذي ارتقى عليه "السيد" شهيداً. ولئنْ كان الفقد موجعاً فالعزاء أنّ درب الشهادة خيار شهيدنا الذي تمناه ومضى نحوه تتويجاً لمسيرةٍ استثنائية عنوانها الفداء والصدق والبسالة في الدفاع عن الحق ونصرة المستضعفين، ومقاومة الاستعمار والاحتلال ومشاريع الهيمنة، والتضحية في سبيل الوطن والأمة وفلسطين وفي سبيل وحدة الصف.
هذا كان عهده وهذه كانت طريقه ولا شيء يفي القائد العظيم حقّه غير الدفاع عن إرثه ونهجه وحمل رسالته المقاوِمة مهما غلت الأثمان وتكالبت الخطوب.
نعم؛ يعيش حزب الله اليوم أخطر استهداف في تاريخه، لكنّ عناوين معركة اليوم هي ذاتها عناوين كلّ المعارك في تاريخ لبنان الحديث؛ خارجياً حيث العدوان والتضييق والتهديد، وداخلياً حيث العمالة والارتهان والمقامرة بلبنان وأهله والنكران.
كيف لا وحزب الله، الذي ولد وتأسّس استجابةً لمخاطر الاحتلال ولظروف الحرمان والتهميش في الجنوب الحبيب، قد مثّل منذ اليوم الأول نقيضاً موضوعياً للمشاريع الكبرى التي تلتهم المنطقة، ومضى وسط حقول ألغام الداخل وتحدّياته وتبدّلات المنطقة ومخاضاتها بثباتٍ وبتضحيات عظيمة نحو تغيير المعادلات، وتحقيق الانتصارات.
فصار بحّق رمزاً للمقاومة والبطولة، وحقّ للشهيد العظيم "حسن نصر الله" الذي قاد المسيرة منذ شباط/فبراير 1992 أن يصبح أيقونة الثوّار وملهم الشرفاء. فيما وبالتوازي تعاظَم الاستهداف وتضاعفت عمالة العملاء.
لا غرابة اذاً في تآمر أدوات الخارج وعملائه توازياً وتكاملاً مع عدوانه وتهديداته، فيما يلحّ الوقوف باستهجان أمام حال الشارع العربي وبعض نخبه التي تصمت ويتساوق بعضها، عن قصد أو جهل. فالشارع، الذي كان السيد الشهيد رمز حراكه الهادر إبّان حرب تموز، والذي لم يرتجِ من غير حزب الله عوناً لغزة حين بدأت حرب الإبادة والإجهاز على المنطقة منذ نحو عامين، هو ذاته الذي ينقسم بعضه اليوم حول المقاومة ويقف بعضه متفرّجاً على الضغوط والابتزاز والتهديدات في ظلّ تجريف الوعي وحرف البوصلة وتعاظم التحريض والصراعات "النعراتية" المدمّرة.
فيما بات ملحّاً وكحدٍ أدنى اليوم أن يضطلع المثقّف بالتعبئة والتوعية في مواجهة إشغال العقل العربي بالأكاذيب والعواجل وتشويه المفاهيم والخلط بين الحقّ والباطل، بين الشرفاء والعملاء، بين من قدّم الدماء والتضحيات وأنكر الذات ومن عاث فساداً وتفريقاً، بين المقاومة التي قدّمت أعظم التضحيات في سبيل فلسطين الأمة بكلّ تلاوينها والذين كانوا دوماً عنواناً للعمالة والتفتيت وخدمة مخططات العدو.
في جولة سريعة، يصير لزاماً أن نذكّر بالفرق الهائل في المواقف والمقاربات بين المقاومة ومنتقديها، أقلّه منذ تحرير الجنوب في العام 2000 وصولاً إلى طوفان الأقصى واصطفافات اليوم حول العنوان ذاته الذي تصدّر كلّ المراحل؛ شرعيّة المقاومة ونزع سلاحها، مروراً بمكائد الداخل فور انطلاق مشروع الشرق الأوسط الجديد وبدء التحريض والعبث الطائفي والمذهبي إبّان احتلال العراق، فالقرار 1559 واغتيال الحريري في العام 2005، وخروج سوريا، والمشاركة القسرية في السلطة، فحرب تموز 2006، وحكومة السنيورة، والاتفاقات، والحرب المدمّرة على سوريا.. وغيرها الكثير الكثير من المفاصل والاستحقاقات.
كلّ عاقل صادق سيخلُص إلى عناوين ثلاثة مثّلت مقاربة حزب الله بقيادة الشهيد العظيم؛ المقاومة، وحماية الداخل من الفتن، ونكران الذات. فيما تضبط مواقف غالبية خصومه عناوين الارتهان والفساد وتفتيت الداخل، والأدهى والأمرّ أنّ رهان هؤلاء الدائم هو على الخارج وعلى ابتزاز المقاومة من بوابة حرصها واستماتتها في سبيل حماية البلاد والعباد ومواجهة العدو، فباتت بحقّ خير تجسيد للموروث الشعبي اللبناني الذي يروي قصة (أم الصبي).
في كلّ المحطات كانت التضحية ونكران الذات وتغليب وحدة الصف هي العنوان. فتحرير الجنوب عدّه حزب الله انتصاراً لبنانياً وأخلى الساحة للدولة ومؤسساتها، فلا انتقم ولا استقوى ولا سمح بتمرير مشاريع الفتنة والعبث في بنية الجنوب المتنوّعة، وفي فتنة القرار 1559 كانت عناوينه الحوار والتشاركية وتوحيد الصفوف؛ فحاور "قرنة شهوان" والحريري وعقد "التحالف الرباعي" و"تفاهم مار مخايل"، وشارك في حوار الرياض وحوارات مجلس النواب.
وحين حقّق انتصار تموز الفارق واختبر خيانة المصطفين مع العدو وتطرّفهم في تفسير القرار 1701 وخناجرهم المسمومة في ملف المحكمة الدولية وشهود الزور لم يشهر سلاحاً ولا استقوى، حتى حين دُفع والقوى الوطنية لحسم المواجهة مع قرارتهم ضدّ "اتصالات المقاومة" في الميدان لم يتعسّف ولا استثمر ذلك في السلطة، وظلّ متمسّكاً بالحوار سبيلاً فشارك في حوارات الدوحة وقبِل بعودة من خان العهود وطعن المقاومة، بل وشارك في حكومته واحتمل الابتزاز والتشويه.
وحين باتت أحداث سوريا ربيع العام 2011 مصدر تهديد للبنان ووحدة مجتمعه ذاد عن البلاد وما تنكّر للحليف الأهمّ، فيما وقف من أثروا من الفساد خلال وجود السوري مع التطرّف ومخطّطات إسقاط سوريا ولبنان وسلّحوا وهرّبوا واستجلبوا الأسلحة بالبواخر، وشوّهوا المواقف وقسّموا وحرّضوا رغم التضحيات والشهداء ورغم ما دفعت المقاومة من أثمان على المستويين الأمني والاستخباري.
بالمقابل لا تخلو مسيرةٌ من أخطاء، لكنّ الأحداث تُقرأ في سياقاتها، فبعض منتقدي المقاومة من المؤمنين بها، وإن حقّ لهم التأشير على مضار مشاركة حزب الله في السلطة، لا شكّ يذكرون السياق الذي فرض ذلك، والسلطة، التي ظلّ حزب الله زاهداً بها وكانت فخاً نُصب بإحكام، للإغراء حيناً وللإغراق أحياناً، فرضت عدة عوامل خوضَ غمارها، أبرزها خروج سوريا، التي كانت تجنّب الحزب وحول السياسة الداخلية ودسائسها، كما الحاجة إلى إنقاذ وحدة الداخل ومنع انفجاره، ولكبح مستغلّي الدولة ومؤسساتها للضغط على المقاومة وكشف البلاد أمام التدخّلات الخارجية والتضييق على الناس ومحاولات تأليبهم.
لم يجد حزب الله مفراً من خوض غمار السياسة الداخلية اذاً، ودفع أثماناً باهظةً ولا يزال، سيما وقد رفض أن يستقوي يوماً بتعاظم شعبيته أو بشرعية التحرير والانتصار، ولا بسلاحه الذي كان ولا يزال عنوان الدفاع عن البلاد وحمايتها. وفيما يبرّر البعض لخصوم المقاومة خياراتهم السياسية المناوئة يلحّ التساؤل حول الفرق الكبير بين الخيارات السياسية، والارتهان للخارج وطعن الشركاء في الظهر.
فهل يمكن مثلاً أن نسمّي استقواء حكومة السنيورة الأولى وانقلابها على العهود، وهي التي وصلت "السراي الكبير" عبر التفاهم مع المقاومة ومشاركتها الرمزية فيها، خياراً سياسياً؟ أم أنّ استقبال المستشارة الأميركية "رايس" بالأحضان في بيروت تحت عنوان سحق المقاومة لتمرير المخطط، والأوامر باستقبال جنود العدو في "ثكنة مرجعيون" بالترحاب و"الشاي" فيما يقصف العدو لبنان ويقتل أبناءه مبَرَّرٌ بأيّ حال؟
هل يسمّى الإصرار على استجلاب قوات دولية وإصدار قرار تحت الفصل السابع والضغط لتسليم السلاح أثناء المعركة سياسةً؟ وهل اتهام المقاومة وتجيير المؤسسات الرسمية خدمةً لمحكمة دولية مخترقة، وتصنيع شهود الزور واعتقال الضباط الأربعة خيار سياسي؟ إذا كانت كلّ هذه خيارات سياسية فيكف يكون التآمر والعمالة للخارج؟
أمثلة كثيرة لا تحصى على معارك حزب الله مع عملاء الداخل، كان آخرها الهياج إزاء إضاءة صخرة الروشة بصورة القائدين الشهيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، والتطرّف في ادّعاء الحرص على تطبيق القانون فيما تغيب المواقف عن عدوانات الكيان التي لا تتوقّف على لبنان وأبنائه ويلوذ هؤلاء بصمت معيب خطير، والحجة دائماً سلاح المقاومة، في تطابقٍ مطلق مع موقف العدو والأميركي، وفي وقتٍ يعلن كيان العدو الذي لا يفهم إلّا لغة القوة أنه ماضٍ في مشاريعه وفي استكمال حربه المدمّرة على لبنان للتخلّص من مقاومته وتغيير هويته وواقعه الجغرافي والديموغرافي من دون تمييز بين أيّ من مكوّناته أو أبنائه، حتى أولئك الذين يستكثرون الاحتفاء بالشهداء وهم الذين لم تتوقّف احتفالاتهم في أوج القصف الصهيوني على بلادهم وأشقائهم في الوطن والمصير.
وعن حرب الإسناد التي يتناولها البعض كعنوانٍ لإدانة حزب الله نتساءل؛ هل تختلف قراءتها لجهة نوايا العدو ومواقف كلّ من المقاومة وخصومها عنها في حرب تموز؟ فقد ثبت في المرتين أنّ العدو كان يعدّ العدّة للحرب على لبنان بمعزل عن قرار المقاومة، ففي حرب تموز كشفت التقارير، ومنها تقرير لـ "وول ستريت جورنال" أثناء الحرب، عن نيّة العدو شنّ حرب على لبنان خريف العام ذاته، وفي معركة الإسناد كشف العدو نفسه وبعد أيام قليلة من بدء الحرب أنه اتخذ فوراً قراراً بشنّ حرب مدمّرة على لبنان.
أما المقاومة ففي الحالتين كان قرارها منسجماً مع مهمتها الأقدس في الدفاع عن لبنان ومواجهة العدو؛ فعملية اختطاف الجنود في 12 تموز/يوليو 2006 كانت تعبيراً عن أحد عناوين المقاومة ومهامها الرئيسية بل وترجمةً لأولوية قصوى أعلنها الحزب مبكراً هي تحرير الأسرى؛ وردت واضحةً جليةً في خطاب الانتصار الذي ألقاه الشهيد الكبير في بنت جبيل في أيار/مايو 2000، وكان إعلان حرب الإسناد في الاتجاه ذاته، فقد بدأها حزب الله بمهاجمة العدو في أراضٍ لبنانية محتلة، وهو هدفٌ مشروع لا يصحّ الاختلاف عليه، سيما وقد سبقته جولة من التصعيد كان أحد عناوينها ما سمّي وقتها "أزمة الخيمة" صيف العام ذاته.
أما عملاء الداخل ففي الحالتين أطلقوا سهامهم وسنّوا خناجرهم لطعن المقاومة ووصفوا شرف الدفاع عن الوطن بالمغامرة، بل ووقفوا مع العدو، سواء حين استماتوا في مساعدته في حرب تموز وكانوا على يمينه كما أسلفنا، أو حين ساهموا فيما أنجزه العدو في الحرب الأخيرة حيث لا شكّ في دور استباحة وتسليم "داتا الاتصالات" للعميل "ميليس" ومحكمته الأداة في تسهيل الاختراقات التي ساعدت الكيان في اغتيال القادة، تماماً كما مساعدتهم إياه بفسادهم وإضعاف مؤسسات الدولة والتضييق على الناس.
وصولاً إلى إرهاق المقاومة بأعباء رعايتهم وحمايتهم وملء فراغ الدولة ومؤسساتها إلى الحدّ الذي بات فيه الناس هم ذراع المقاومة المؤلمة التي ساهم هؤلاء في ليّها عن سبق إصرارٍ وتعمّد. هؤلاء خانوا لبنان واللبنانيين والمقاومة وليس في قاموسهم كرامةٌ أو تحرير أرضٍ أو أسرى وكأني بهم يسعون بعمالتهم وفيض وقاحتهم إلى اغتيال الشهداء مرةً أخرى، فيما كلّ المخلصين مطالبون اليوم بحماية إرث الشهداء وبالدفاع عن المقاومة التي لطالما حمتنا من الفناء الذي يتهدّدنا جميعاً.
لا شكّ أنّ غياب "السيد" الذي عَبَر بالمقاومة كلّ هذه المعارك والأفخاخ وفي أوج هذه المعركة المصيرية التي تعيشها الأمة خسارة قاسية للمشروع ولحزب الله الذي اختبر طويلاً مشاريع تصفيته وظلّ صامداً حاملاً راية المقاومة، مدافعاً عن الأرض والقضية، متمسّكاً بالحقّ في امتلاك كلّ ما يدفع مشاريع المحتل ومنافحاً عن وحدة الصف وبناء الدولة والحفاظ على الناس ومصالحهم وتغليب المصلحة العامة.
هو نهجٌ وهوية، يتكالب الأعداء وأدوات الداخل للإجهاز عليه فيما تستمر المسيرة، صعبةً قاسيةً مليئة بالتحدّيات، ومشرّفة، تستلهم الدروس وتهتدي بسيرة الشهيد الكبير الذي سيظل نهجه، المنارة التي تهدي إلى السبيل، فالمعركة طويلة وآخر حروب المقاومة لم تقع بعد.
في الذكرى الأولى لاستشهاد القائد الملهِم "حسن نصر الله" لا نقول وداعاً وإنما إلى اللقاء يا شهيد الشرفاء والأحرار، يا شهيد فلسطين ولبنان؛ فقصتنا لم ولن تنتهي ولنا موعد قريب رغم الوجع؛ حين يستردّ أبناء الأمة وعيهم وبوصلتهم ويوفون دماءك دَينها، وكلنا يقين أنّ حزب الله وبحكمة وشجاعة رفاقك وبدعم المؤمنين بالمقاومة، سيبقى البوصلة التي لا تتوه… فلا أنت يا سيدي ستغيب ولا المقاومة ستضلّ الطريق.