فلسطين في حياة الأمين الشهيد حسن نصر الله.. السيرة والبوصلة
رسم الشهيد الأمين في مواقفه التي أعلنها في مسيرة حياته خريطة طريق لفلسطين كقضية عقائدية أخلاقية، ولعلّ أحد أبرز ملامح رؤيته هو ربط فلسطين ببعدين أحدهما دينيّ وآخر أخلاقيّ.
-
شكّلت فلسطين في سيرة ومسيرة الأمين الشهيد معنى للهوية والواجب.
لم تكن فلسطين في حياة الأمين العامّ لحزب الله الشهيد حسن نصر الله قضية عابرة أو شعاراً سياسياً يُرفع ويُردّد في المناسبات فحسب، بل كانت في العقل والقلب والوجدان والبوصلة التي وجّهت مسيرة حياته منذ بدايتها وحتى استشهاده، ففي كلّ خطاب وموقف كان يطلّ به الأمين الشهيد كانت فلسطين حاضرة كجوهر للمعركة الكبرى مع "إسرائيل"، وكأمانة لا يجوز أبداً التفريط بها.
شكّلت فلسطين في سيرة ومسيرة الأمين الشهيد معنى للهوية والواجب، وميداناً لصدق الانتماء، وامتزجت السيرة بالبوصلة، حتى أصبحت عنواناً لمسيرة مشرّفة من العطاء والتضحية والفداء وكأنها تتردّد بالفم الملآن في حياته وبعد استشهاده، من ينحز إلى فلسطين يكتب لنفسه موقعاً في ذاكرة الأمة.
وفي زمن تبدّلت فيه التحالفات السياسية في المنطقة، وغابت المبادئ خلف حسابات المصالح، برزت شخصية الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد حسن نصر الله كأحد الأصوات القليلة التي حملت فلسطين كقضية عقائدية وإنسانية تمسّكت برؤية ثابتة ورسمت طريقاً واضحاً للقضية الفلسطينية، وبرؤية ثابتة بمواقف راسخة ليست مجرّد خطاب تضامني لحظي متعاطف، بل عبّر عن مشروع شامل يربط بين المقاومة والهوية والقدس كقضية لا يمكن التنازل عنها أو التفريط بها من خلال خطاباته ودعمه الواضح والصريح للمقاومة الفلسطينية.
حاول الأمين الشهيد تقديم خريطة طريق واستراتيجية واضحة نحو القدس تجمع بين أبعاد مركزية ثلاثة، تمثّلت في البعد العقائدي والسياسي والبعد العسكري كبعد مهم استراتيجي مساند، فيما انشغل حينها كثير من قادة وزعماء المنطقة بالمناورات السياسية ورسم العلاقات مع الغرب والقوى السياسية الكبرى، ظلّ الشهيد الأمين يؤكّد في كلّ موقف أنّ فلسطين هي معيار الشرعية لأيّ مشروع في المنطقة، وأنها القضية التي تختبر مدى صدق أيّ مشروع في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بل ونجح في جعل فلسطين قضية ومرجعاً ومعياراً لأيّ مشروع في المنطقة لا مجرّد تعبير عن مواقف إعلامية فقط، بل أضحت موقفاً متجذّراً ينسجم مع رؤيته لطبيعة مشروع المقاومة الذي تبنّاه كقائد وأمين عامّ للمقاومة الإسلامية في لبنان.
ما ميّز الأمين الشهيد حسن نصر الله في سيرته العطرة أنه استطاع أن يؤسّس لنهج واضح لقضية عادلة، فلسطين قضية ليست محصورة بشعبها وحدودها، بل قضية أمّة بأكملها، وظلّ يؤكّد في كلّ موطن وموقف أنّ القدس تشكّل رمزاً للهوية العربية والإسلامية، وهذا يعدّ موقفاً عقائدياً غير قابل للمساومة أو التفريط، فلسطين في عقله وقلبه ليست ورقة مساومة سياسية بل أمانة تاريخية ودينية في آن واحد.
رسم الشهيد الأمين في مواقفه التي أعلنها في مسيرة حياته كأميناً عامّاً لحزب الله في لبنان خريطة طريق لفلسطين كقضية عقائدية أخلاقية، ولعلّ أحد أبرز ملامح رؤيته هو ربط فلسطين ببعدين أحدهما دينيّ وآخر أخلاقيّ، حيث شدّد مراراً وتكراراً على أنّ القدس ليست للفلسطينيين وحدهم بل تشكّل رمزاً للهوية العربية والإسلامية بعيداً عن الطائفية، ولهذا السبب كانت مواقفه رافضة لأيّ تسوية تنقص الحقوق الفلسطينية، مؤكّداً أنّ أيّ تخلّ عن فلسطين وقضيتها هو خيانة سياسية غير مقبولة.
أكثر ما كان يميّز خطابات الأمين الشهيد هو حضور فلسطين فيها، وعندما كان يخطب حول فلسطين لم يكن يتحدّث بكلمات وشعارات سطحيّة بل كانت تعبيراً صادقاً عن تضامن كامل معها، بل ودعوة إلى المقاومة باعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من مشروع وبرنامج يتبنّاه حزب الله في صراعه مع "إسرائيل"، ولا أبالغ إن قلت إنّ أبرز ما كان يميّز خطاباته هو الدعوة المستمرة للمقاومة باعتبارها واجباً عقائدياً وأخلاقياً، وقد سجّل بهذا له موقفاً راسخاً ثابتاً عبر مرّ السنين التي مضت.
أسّس الأمين الشهيد طيلة حياته لخطاب استراتيجي قائم على رفض شرعيّة "إسرائيل" معزّزاً استراتيجية المقاومة، ولم يكتفِ بالخطاب السياسي الإعلامي بل جعل رفض الاعتراف بشرعية "إسرائيل" أساساً لرؤيته الاستراتيجية القائمة على أنّ الاحتلال ليس كياناً طبيعياً في المنطقة بل يشكّل مشروعاً استيطانياً استعمارياً مفروضاً بقوة السلاح أميركياً وغربياً، وأنّ زواله أمر حتمي ولو بعد حين.
وهذه الاستراتيجية لم تكن يوماً من الأيام شعاراً أو مسألة نظرية في قاموسه بل ترجم ذلك في إطار استراتيجية حزب الله المقاومة في لبنان، وتشكّل بذلك مصدر إلهام أساسياً لكلّ قوى المقاومة الفلسطينية، وانعكس ذلك في رؤية وتأسيس فكر للمقاومة في لبنان وفلسطين معاً كقاموس واحد، ومرّت محطات الصراع بترجمة لهذه الرؤى إعلامياً وميدانياً إذ ربط بين انتصارات حزب الله في جنوب لبنان عام 2000 وحرب تموز 2006 وبين حروب خاضتها المقاومة الفلسطينية شكّلت انتصارات وعنواناً لاستعادة الحقوق.
مثّلت مواقف الأمين الشهيد تحدّياً مباشراً لكلّ القوى المعادية في المنطقة والمنحازة للمشروع الأميركي تحديداً، منذ أن اجتاحت المشاريع السياسية المنطقة وإعلان اتفاق أوسلو وصولاً إلى كلّ اتفاقيات التطبيع في السنوات القليلة الأخيرة، إذ اعتبر أنّ أيّ سلام مع "إسرائيل" ليس سوى غطاء لتكريس مشروع الاحتلال، وأنّ الشعب الفلسطيني لا يملك ترف التخلّي أو التفريط عن حقّه التاريخي في هذه الأرض المحتلة مهما بلغت الظروف والتضحيات.
ما ميّز شخصية الأمين الشهيد أنه ترجم مواقفه إلى أفعال في دعم المقاومة الفلسطينية بإمكانيات كبيرة، وأسس لاستراتيجية مقاومة مشتركة عدّ فيها المقاومة ساحة واحدة ومعركتها معركة واحدة ذات هدف واحد ومشترك.
ما يسجّل في سيرة ومسيرة الأمين الشهيد أنه جعل المقاومة خياراً وجودياً استراتيجياً، رؤية تبنّت نهج المقاومة كاستراتيجية طويلة الأمد لا خياراً تكتيكياً. كان يقول ويردّد دوماً أنّ "إسرائيل" يمكن أن تهزم بالصبر والاستنزاف، فهو من أصحاب المدرسة التي رأت أنّ الاستنزاف والصبر يمكن أن يغيّرا المعادلة سياسياً وعسكرياً مع "إسرائيل"، ومثل هذه الاستراتيجية منحت الشعب الفلسطيني شعوراً بأنّ الصراع مع "إسرائيل" قائم على معادلة صراع الزمن الطويل، وإن الانتصار ممكن إذا امتلك الإرادة والصبر معاً، وهذه الرؤية نقلت فكر المقاومة من كونها مجرّد ردّ فعل إلى مشروع متكامل يتحدّى التفوّق العسكري الإسرائيلي بمنطق الاستنزاف والتوازن والردع.
يشهد للأمين الشهيد أنه تبنّى مواقف تجاه فلسطين كقضية أخلاقية، كيف لا وهو صاحب الموقف الشهير في خطابه الشهير الذي قال فيه ونستذكره في ذكرى استشهاده الأولى: "نحن شيعة علي بن أبي طالب لن نتخلّى عن فلسطين ولا عن شعب فلسطين". كان يصف ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني بأنه جريمة لا يمكن السكوت عنها، وهذا البعد الأخلاقي جعل مواقفه وخطاباته تتجاوز جمهور المقاومة لتصل إلى شريحة أوسع من الشرائح وتؤثّر فيها، سواء في لبنان على وجه الخصوص أو في المنطقة العربية والإسلامية ككلّ من الذين رأوا في مواقفه صوتاً للعدالة في عالم فقد مبادئه وأخلاقه، بل واستطاع أن يجعل من خطاباته عن فلسطين بعداً إلهاميّاً للشعوب في المنطقة.
ركّز الأمين الشهيد مسيرة حياته وفي خطاباته على أنّ المقاومة لا تهزم إذا امتلكت الإرادة، وأنّ الشعب الفلسطيني ليس شعباً يرزح تحت الاحتلال فقط. إنما شعب يمثّل أمة حيّة بأكملها حافظت على هويتها الفلسطينية، ولطالما أكد أنّ الفلسطيني لديه من العزيمة والإصرار والإرادة ما يمكّنه من هزيمة المحتل الإسرائيلي رغم كلّ ما مرّ فيه من حصار وحرب، ومثل هذه الرؤية جعلت موقفه حاضراً في الوجدان والعقل الفلسطيني والعربي، بل ولامست الشعوب ورفعت معنوياتها التي شعرت بأنّ القضية الفلسطينية حيّة لم تمت.
رؤية الأمين الشهيد حسن نصر الله تركّزت على محاور ثابتة راسخة، عقائدية واستراتيجية وإنسانية على حدّ سواء، رسم خلالها طريق المقاومة نحو القدس ليس كحلم بعيد بل كخطة مستمرة جمع فيها بين المقاومة العسكرية والسياسية من خلال ثباته على المبادئ ودعمه للمقاومة وخطاباته التي دمجت بين الأخلاق والسياسة، أصبح الشهيد الأمين رمزاً لقضية لم تمت رغم كلّ محاولات التصفية، قضية عنوانها فلسطين في رؤيته ليست مجرّد أرض بل هي معيار للحقّ والكرامة ووجهة المقاومة المستمرة نحو القدس.
في ذكرى استشهاده الأولى لا بدّ أن نكتب للتاريخ أنّ الأمين الشهيد كان نموذجاً فريداً قد لا يتكرّر من الثبات على المبادئ في زمن تبدّلت أو تراجعت فيه المواقف، وقد سجّل في صحيفة حياته مواقف مشرّفة تكتب بمداد من نور، سيظلّ اسمه حاضراً في وجدان كلّ لبناني وفلسطيني وعربي وإسلامي حرّ، في أنّ الثبات على المبادئ قد يكون أثمن وأوفى من كلّ التسويات وأنّ المقاومة حين تتجذّر في العقيدة والوعي يمكن أن تصبح قدراً لا ينكسر، إلى أن مضى شهيداً على طريق القدس. طبت حيّاً، طبت شهيداً يا سيد شهداء الأمة.