التطرف اليميني الصهيوني.. أيديولوجي أم مَرَضي؟
يَعرِفُ أيّ شخص يقرأ "إسرائيل" جيداً عمق مواقف الكراهية، ليس تجاه غير اليهود "الأغيار" فقط، بل تجاه بعض اليهود. وهنا، يبدو جلياً أثر التربية اليهودية، وربما البيئة الاجتماعية، في سلوك الفرد في المجتمع الإسرائيلي.
-
هل هناك علاقة بين الأمراض النفسية والتطرف الأيديولوجي؟
الكتابة عن التطرف والعنف في المجتمع اليهودي ليست عملاً أكاديمياً نفسياً فحسب، بل تتجاوز حدود علم النفس إلى عوالم يتشابك ويلتبس فيها العقدي بالنفسي بالأسطوري.
إن قراءةً مُعمّقة للمجتمع الإسرائيلي تُظهر بوضوح الترابط المُحكم بين المرجعية التوراتية والتلمودية والأسطورية والنماذج السلوكية للشخصية الإسرائيلية، وبالتحديد اليمينية المتطرفة، التي لم تنجح إلا في إنتاج العنف والاضطهاد والإرهاب، حتى أصبح الأمر ثقافةً أكثر منه أيديولوجيا ونمط سلوك كامن في صميم الشخصية الإسرائيلية وبُنيتها الأساسية، أو رد فعل أو خياراً ظرفياً.
يَعرِفُ أيّ شخص يقرأ "إسرائيل" جيداً عمق مواقف الكراهية والعنف، ليس تجاه غير اليهود "الأغيار" فقط، بل تجاه بعض اليهود. وهنا، يبدو جلياً أثر التربية اليهودية، وربما البيئة الاجتماعية، في سلوك الفرد في المجتمع الإسرائيلي، فهي تشجعه بعدما تشحنه بمشاعر العداء، والتي يكون التعبير عنها بالعنف، وغالباً ما تأتي ردود الفعل تعصباً في الفكر وشذوذاً في الممارسة.
قبل أيامٍ قليلة، أفاق المجتمع الإسرائيلي على فضيحة من العيار الثقيل هزت أوساطه المختلفة، إذ كشفت شوشانا ستروك، ابنة وزيرة الاستيطان الإسرائيلية المتطرفة أوريت ستروك، المعروفة بعدائها الشديد للفلسطينيين وتطرفها تجاههم، عن تعرضها لاعتداءٍ جنسي من والديها، اللذين وثّقا جريمتهما بفيديو مصوّر.
ويبدو أن رغبة أوريت ستروك، العضو البارز في حزب "الصهيونية الدينية"، الذي يتزعّمه وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش، في التعذيب وإلحاق الأذى بالآخر ليست نابعة من دوافع أيديولوجية دينية سياسية فحسب، بل هي، على ما يبدو، مرضٌ نفسي لا علاقة له بالضحية (الفلسطيني)، فالوزيرة ستروك لم تكتف بتعذيب الفلسطينيين بل تعدى آذاها إلى ابنتها شوشانا.
وهنا، ثمة من يسأل: هل هناك علاقة بين الأمراض النفسية والتطرف الأيديولوجي؟ لا شك في أن للظروف الأسرية والاجتماعية والنفسية التي تحيط بالفرد تأثيراً مباشراً ومهماً تجعل الفرد في ظروف ما مُهيئاً لتقبّل الانضمام إلى جماعات تحمل أفكاراً متطرفة أو سلبية، ويكون لها وقع بالغ الأهمية في سلوكه العام الظاهر، وقد يكون هذا السلوك في اللاوعي، عبر السعي للتعبير عن وجهات النظر التي يتبنّاها وعدم التحرج من ممارستها.
ومع أنه من الخطأ، وربما الخطر، الجزم بأن التطرف هو نتاج أمراض واضطرابات نفسية، هكذا على الإطلاق ومن دون أدنى تمييز؛ لأنه سيجعلنا نتصوّر أننا إذا صادفنا هذه الظاهرة، أي التطرف، فإنه من الضروري أن تلازمها حالة مرضية على المستوى النفسي، وهذا الأمر ليس صحيحاً، فالأغلبية العظمى من المرضى النفسيين لا علاقة لهم بالاختيارات المتطرفة أو بالتيارات السياسية الراديكالية.
كما أن هذا الاعتقاد الخاطئ، على عمومه، قد يدفع عن أولئك المتطرفين مسؤوليتهم القانونية والأخلاقية حيال ما يقترفونه من جرائم استناداً إلى مرضهم النفسي، خصوصاً في الحالة الفلسطينية التي ترزح تحت وطأة التطرف الصهيوني وجرائمه، ومثل هذا الحُكم يفتقد إلى اللياقة تجاه المرضى النفسيين الذين ليسوا بأي حال مُذنبين، بل هم في وضع لا أحد بمنأى عنه، لأن المرض النفسي على غرار باقي الأمراض الأخرى، يظل إمكانية واردة بالنسبة إلى أي إنسان.
لكن، حتى وإن انعدمت العلاقة السببية بين المرض النفسي وبين التطرف وما يصاحبه من أفعال عنيفة، فهذا لا يمنع إمكانية رصد الأمراض النفسية من حيث هي عوامل هشاشة أولية، تؤدي إلى الوقوع في مثل هذه الاختيارات العنيفة، وقد تجعل الحوافز لتبني اختيارات كهذه واردة بشكل أكبر، بحيث يُمكن أن تُستعمَل بعض أشكال الانتماءات كنوع من التفريغ النفسي لتوترات تلك الأزمات، أو تحقيق إشباع وهمي لبعض المشاعر المرضية، التي يمكن أن تنتقل بفعل المحتوى المتطرف من مستوى الخيال إلى محاولة تحقيقها وتجسيدها على مستوى الواقع، ومن هنا فالمرض النفسي ذاته لا يمكن أن يُفسر التطرف كُلياً، لكن التطرف يُمكنه أن يَستغل هشاشة المرض النفسي.
وهذا بالضبط ما كشفه الصحفي الإسرائيلي أوري بلاو في السادس من أيلول/ سبتمبر 2023 إذ نشر تحقيقاً على موقع "شوميريم" الإلكتروني بيّن فيه أن الإدارة المدنية الاستيطانية الإسرائيلية، برئاسة الوزير المتطرف سموتيرتش والتي تدير "وحدة الرعاية الاجتماعية" قررت تحويل مئات آلاف الشواكل لعلاج "الشباب المتسربين من المدارس"، والمقصود الشباب الإسرائيلي الذي يعيش في البؤر الاستيطانية، أو أولئك الذين يُطلق عليهم عادة اسم "فتية التلال".
وقد حُوِّلت الأموال ونفّذت الأنشطة بواسطة جمعيات يديرها أفراد من اليمين الصهيوني المتطرف، والتي تشارك في تنظيم وتمويل أنشطة البناء الاستيطاني والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية. وقد كشف التحقيق كذلك أن جمعية "عودة صهيون" حصلت بين عامي 2021-2022، على ما يقارب ثلاثة ملايين شيكل من ثلاث وزارات حكومية (التعليم، التنمية الريفية، و"النقب والجليل"، وأن جزءاً كبيراً من هذه الأموال، حسب التحقيق، يذهب إلى عصابات المستوطنين تحت ذريعة "علاج الشباب المُعرضين للخطر".
على أي حال، عادة ما تأتي غالبية مستوطني "فتية التلال" من بيئة عائلية مُضطربة مُعنّفة ولا يجدون لهم من سبيل لتفريغ عُقدِهم النفسية سوى اللجوء إلى الأيديولوجيا الدينية السياسية التي تمثل بالنسبة إليهم غطاءً ومحفزاً للتنفيس عن غضبهم. فمعظم مستوطني عصابة "فتية التلال" شباب مراهقون "معرضون للخطر" إذ يعانون أزماتٍ شخصية عائلية، وقد أطلقت عليهم دراسة إسرائيلية صدرت عام 2018 تسمية "الفردانين" الذين تدحرجوا إلى التلال لأسباب شخصية. ويبدو جلياً أنَّ سلوكهم العدواني يستند إلى شعورهم بالاضطهاد فيتشكل لديهم نمط سلوكي يقوم بإزاحة قلق النفس واضطراباتها، والسعي لحل أزماتهم عن طريق تفريغ هذه الاضطرابات ضد "الآخر"، تحت ستار "الأيديولوجيا السياسية الدينية" ومن ثم استمرار التغاضي عن المشاعر "الغيرية"، و "سحقها" من خلال إنكارها وإلقاء المسؤولية على الضحية نفسها.
غالباً ما تُؤدي المواقف المتطرفة التي يعيشها الفرد إلى سلوكيات متطرفة، وهؤلاء الفتية المستوطنون تعرض معظمهم، وفق معطياتٍ إسرائيلية، لصدمات ومواقف معقدة في حياتهم، من مشاعر قلق وعجز شديدة عبّرت عن نفسها في ردود فعل مختلفة، مثل نوبات الغضب، والسلوك العدواني، وانخفاض القدرة على تحمّل الإحباط، وتقلبات مزاجية حادة، واستخدام مواد نفسية مؤثرة متنوّعة، وحتى حالات إيذاء النفس المتطرفة.
تتكوّن عصابة "فتية التلال" في غالبيتها من فتية يهود متطرفين يعيشون في بؤرٍ استيطانية معزولة في الضفة الغربية، من منطلقات أيديولوجية يمينية راديكالية، يميزهم شعرهم العريض الطويل، وإطلاق اللحى، وارتداء القبعات الكبيرة المحبوكة، والعمل في الأرض ورعي الأغنام. يعدّ كثير منهم أنفسهم رواداً وخلفاء لليهود الذين عاشوا في مملكة "إسرائيل" في فترة الكتاب المقدس، ويرون أن الاستيطان في "أرض إسرائيل" هو الأساس المركزي لتعجيل مشيئة الله بتحقيق الفداء وفق التوراة.
مثل هذه المعتقدات تجعل هؤلاء الشباب المضطرب يعتقد بأنه يؤدي رسالة "سامية" عبر العنف الذي يمارسه تجاه الفلسطينيين، ما يتيح لليمين الصهيوني المتطرف وقادته استمرار امتطاء ظهور هؤلاء الفتية والزج بهم في أتون معركة التوسع الاستيطاني التي يقودونها ويغذونها.