الصين والولايات المتحدة: صراع النفوذ في عصر الاقتصاد الحاكم
فهم النموذج الاقتصادي الصيني وتحوّلاته، من اقتصاد موجّه إلى اقتصاد سوقي ذي خصائص اشتراكية، يتيح لنا رؤية أوضح لما يشهده العالم اليوم من تحوّلات استراتيجية.
-
كيف أصبحت الصين مصنع العالم؟
غالباً ما يكون الهدف من الصراع الاقتصادي هو حماية حدود الأوطان، لكن عندما يتحوّل هذا الصراع إلى سعيٍ للسيطرة على الكوكب اقتصادياً، نكون قد دخلنا مرحلة تتجاوز الحماية إلى النفوذ الاقتصادي، الذي بات المتحكّم الأساسي بالنظام السياسي العالمي. فبعد أكثر من سبعين عاماً من هيمنة السياسة على الاقتصاد، دخل العالم مرحلة جديدة يُمسك فيها الاقتصاد بزمام القرار السياسي.
وهذا المقال الذي نشرح من خلاله الواقع الاقتصادي العالمي، ليس إلّا الجزء الأول من سلسلة تُعنى بتحليل المواجهات الاقتصادية العالمية في القرن الحادي والعشرين.
كيف أصبحت الصين مصنع العالم؟
أولاً: الاقتصاد الموجّه (1949-1978)
اعتمدت الصين، بعد قيام النظام الشيوعي عام 1949، نموذج الاقتصاد الموجّه، إلّا أنّ هذا النموذج واجه إخفاقات كبيرة، ولا سيما خلال فترة "القفزة الكبرى إلى الأمام" بين عامي 1958 و1962، التي أدّت إلى مجاعة كارثية. وقد استدعى ذلك مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية.
ثانياً: مرحلة الإصلاح والانفتاح (1978-القرن الـ21)
في عام 1978، أطلقت الصين سياسة الانفتاح الاقتصادي، فأنشأت مناطق اقتصادية خاصة لجذب الاستثمارات الأجنبية، وانتقلت من نظام الحصص الزراعية إلى نظام "الأسر المنتجة".
وبذلك بدأت الصين تحوّلها من اقتصاد اشتراكي موجّه إلى اقتصاد اشتراكي سوقي مختلط، وهو ما تطلّب إصلاحات عميقة في الأنظمة المالية، النقدية، الحكومية، والقانونية.
ثالثاً: النتائج (1980-2000)
شهد الاقتصاد الصيني منذ عام 1980 نمواً غير مسبوق، بمعدل سنوي بلغ نحو 10%. وبحلول عام 2000، وصل الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.25 تريليون دولار. وشهدت التسعينيات تحوّلات نوعية، من بينها: الدخول في الخصخصة، تحديث النظام المعرفي والتقني، تحوّل البنوك إلى مؤسسات تجارية، وبروز الطبقة الوسطى.
الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية: نقطة تحوّل
شكّل انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 نقطة تحوّل كبرى، وأسفر عن آثار مباشرة، أبرزها:
1. نمو تجاري هائل: بلغ حجم التجارة الخارجية نحو تريليون دولار.
2. جذب الاستثمارات الأجنبية: أصبحت الصين ثاني أكبر دولة في العالم من حيث استقبال رؤوس الأموال الأجنبية.
3. تصدّر الإنتاج العالمي: تحوّلت الصين إلى "مصنع العالم"، وتنوّع إنتاجها من الإلكترونيات إلى السيارات الكهربائية، مسيطرةً على نحو 30% من معدل النمو الاقتصادي العالمي.
نتائج الاقتصاد الصيني بالأرقام:
- يشكّل 28% من الإنتاج الصناعي العالمي.
-يتصّدر العالم في الطاقة المتجدّدة والسيارات الكهربائية.
- يُعدّ أكبر قوة تصديرية على مستوى العالم.
- الناتج المحلي الإجمالي يبلغ 18.5 تريليون دولار.
- حجم التجارة الدولية يصل إلى 5.1 تريليونات دولار.
- النمو في التجارة العالمية ارتفع بنسبة 1200% بين عامي 2000 و2024.
أبرز الشركاء التجاريين: الولايات المتحدة، اليابان، الاتحاد الأوروبي، أفريقيا، مجلس التعاون الخليجي، وكوريا الجنوبية.
تحديات وآثار سلبية
لا يخلو أيّ اقتصاد عالمي من تحدّيات وسلبيات، ومن أبرز ما تواجهه الصين:
1. أزمة قطاع العقارات: برزت بعد عام 2000، وتفاقمت معها مشكلة الديون الداخلية.
2. تباطؤ النمو بعد جائحة كوفيد-19: لم يتجاوز النمو الاقتصادي حاجز 5% منذ أزمة كوفيد-19، مع تراجع في الاستثمارات، وارتفاع في معدل الشيخوخة؛ فثلث السكان يُتوقّع أن تتجاوز أعمارهم 60 عاماً بحلول عام 2035.
3. المخاطر البيئية: ولا سيما في المدن الصناعية الكبرى، حيث تعاني من معدلات تلوّث مرتفعة.
4. الصراع التجاري مع الولايات المتحدة: خصوصاً ما يتعلّق بالرسوم الجمركية. إذ تواجه الصين صداماً مباشراً مع أكبر قوة استهلاكية وتقنية في العالم.
إنّ فهم النموذج الاقتصادي الصيني وتحوّلاته خلال العقود الماضية، من اقتصاد موجّه إلى اقتصاد سوقي ذي خصائص اشتراكية، يتيح لنا رؤية أوضح لما يشهده العالم اليوم من تحوّلات استراتيجية. لقد أصبحت الصين لاعباً مركزياً في بنية الاقتصاد العالمي، ليس فقط بصفتها "مصنع العالم"، بل كمحرّك رئيسي لنمو التجارة الدولية، ومنافس مباشر للولايات المتحدة على صعيد النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي.
لكن في مقابل هذا الصعود، تواجه الصين تحدّيات بنيوية داخلية، من تباطؤ النمو إلى أزمات العقارات والشيخوخة السكانية، فضلاً عن الضغوط الخارجية الناتجة عن صراعها المتصاعد مع واشنطن، كما أسلفنا.
وفي ضوء ما تقدّم، يفتح هذا المقال الباب أمام سلسلة من التحليلات المقبلة، التي ستتناول التحدّيات التي تواجهها القوى الاقتصادية الكبرى، وأدوات المواجهة التي تستخدمها، والتأثيرات المحتملة على مستقبل النظام الاقتصادي العالمي.