القوة معيار أخلاقيّ في زمن غير أخلاقيّ

لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت قلوبهم، فالمطلوب هو ترويض المجتمعات على مفاهيم جديدة راقية تقوم على الحس الإنساني والجماعي، وليس المغالاة والإفراط بالأنانية والخطاب الاستعلائي القائم على النزاعات العنصرية وإلغاء الآخر.

  • عناصر من القوات الأميركية في العراق
    عناصر من القوات الأميركية في العراق

إنَّ القوة مسألة ذو حدين. نحن لا ننفي أهميتها، ولكن يجب أن يسودها معيار أخلاقي، لتكون قوة فاعلة، وليست منحطة. إن العالم اليوم أشبه بمجتمعات أسيرة غير قادرة على تخطي هذا الجمود والأفول، بفعل هذا الواقع القائم على أساس القوة الماكيافيلية التي تقوم على أن الغاية تبرر الوسيلة.

لذلك، نجد انحلالاً قيمياً وأخلاقياً مستفحلاً وانحطاطاً جماعياً يعتريه الكثير من الفجور والانكشاف والجهل تحت مُسمى الحضارة، فهل هناك حضارة قائمة على أساس توزيع السلطة على أسس غير متكافئة، أو إيصال المرأة إلى مرحلة التدمير الممنهج وتفسّخ الأسرة، أو الاستعمار والهيمنة بحجّة الديمقراطية والحرية؟ 

في الحقيقة، إنّهم يأتون بمشروع هيمنة وتدمير ممنهج يتمثل في "الربيع الصهيوني"، لإيصال المنطقة إلى هذا المستوى من الإفقار والتشريد والتدمير والتخريب وشيطنة الإسلام على مقياس العم سام، وتصدير مدارس إسلامية لا تتصل بأي صلة بالإسلام والرسالة المحمدية، فهدف وضع السدود والحدود وتجزئة العالم العربي هو "التقدّم" وإحداث تحوّل كبير في ضوء معطيات جيوستراتيجية واقتصادية وهُوياتية غير مسبوقة.

إن أميركا ليست وحدها المسؤولة، بل كلّ من يلفّ لفّها، حتى يكرس ويعزز الثقافة التلمودية وبروتوكولات صهيون القائمة على تدمير المجتمعات وانحلالها من أجل التفوق العرقي والأنانية، وهذا ما حدث بالحضارة الهندية والعربية والإسلامية، لتخرج بعدها مادلين أولبريت وتقول: "الثمن يستحق ذلك".

إنّ كلّ ما يحدث اليوم لا يمثّلنا، فثقافتنا لا تقوم على الاستعلاء والقتل الجماعي والتجريد والعربدة السياسية. من هنا، لا بد من توضيح مفهوم الأخلاق والحضارة التي باتت عند البعض وجهة نظر، وعززتها ثقافة المادو والكاوبوي وحقوق الإنسان الباطلة، والتي أصبحت منكشفة وباتت تفتقر إلى الشرعية.

والجدير ذكره، هو أن نلفت الانتباه إلى مسألة بالغة الأهميّة، وبمعزل عن كلّ هذه المجريات المتسارعة والملتهبة والعميقة، وهي أنَّ الكيان الصهيوني لا يزال يبرر نفسه بفعل مفهوم الضحية الذي فرضه الهولوكوست النازي، باعتبارهم "شعب الصابونيم"، أي اليهود الضعفاء في معسكرات الإبادة النازية، تمهيداً لسوقهم إلى الموت. 

إنّ إعادة قراءة الهولوكوست والنكبة مسألة بالغة الأهمية، من أجل إيجاد لغة تأويل مشتركة بين الضحية والمستعمر من جهة، وتوضيح مسألة خطِرة هي الهدف من كل ما يجري اليوم، أي إعطاء صورة مسيئة إلى الأمة العربية من أجل الطعن في أخلاقها، لتبرير عمل الاستيطان والتهويد في القدس والمنطقة، من خلال إعادة إنتاج خطاب الهيمنة وتموضعه في خريطة الجيوبوليتيك الجديدة للعالم، فهل هناك حضارة إنسانية تجعل إنساناً متحضراً يعتقد بأن من حقّه حكم شعب غير شعبه، وينزل به كلّ أنواع التعذيب والاحتقار والاحتلال والعدوان والعنصرية؟

إنَّ مبادئ الحضارة ليست مقتصرة على تقييم الآخر بناء على تصنيفات غير موضوعية، بين هذا متحضّر وذاك بربري، والتي يخترعون بها هويتهم وهوية غيرهم، ويقررون أنّ هُوية الضعيف هي ضعفه، وهُوية القوي هي قوته. 

إن العقل المتحضّر، إن كان للكلام معنى، يرفض احتلال أرض الغير، والمتحضر الحقيقي هو الذي يقاتل الغازي الذي احتل أرضه، لأن الدفاع عن أرض وهوية مستقلتين هو تعبير شخصي عن الكرامة الذاتية، فلا حضارة لإنسان يقبل باحتلال أرضه، فقد قدمت تجارة العبيد التي جاء بها العالم الجديد إضاءة جديدة على ثنائية الحضارة والبربرية.

واعتبر الألماني فالتر بنيامين أنّ في كل حضارة جديدة بعداً بربرياً وافداً، إذ يقول في كتابه "فتح أميركا": "كلّما صعدت الحضارة صعدت معها وجوه بربرية غير مسبوقة، بسبب وسائل وأدوات (حضارية) لم تكن متوافرة في زمن سابق. أقول في السياق نفسه إنَّ البشرية كلّما تطورت ينبغي أن تتطوَّر الأخلاق لتخدم البعد الإنساني نحو المزيد من الترفع ورقيّ المجتمعات، وليس أفولها أو ما يعرف بنهاية التاريخ. إن المقصود بذلك هو تطوير الشعوب نحو الأفضل، غير أن ما حدث هو عكس ذلك.

يأتي الجواب على هذا التناقض في أطروحتين. تقول الأطروحة الأولى: "إن الشرّ الإنساني أبدي، حتى لو وُجِد خيرٌ يواجهه، وهو ما أوجزه نجيب محفوظ في روايته "أولاد حارتنا". وتقول الأطروحة الثانية: "إنَّ جوهر الإنسان الذي قالت به فلسفة التنوير الأوروبي، لا وجود له، فما يوجد هو إنسان بصيغة الجمع وشروط إنسانية بصيغة الجمع أيضاً، وما يوجد قبل هذين البعدين هو مبدأ القوة الفاصل بين مجتمعات إنسانية متعددة".

تلتقي هاتان الأطروحتان عن مطلقات الشر والجوهر في موقع التاريخ الإنساني، بقول للألمانية حنّا أرندت: "لا ينفصل الفعل العنيف عن الوسائل التي يستخدمها والغايات التي يقصدها، فالبربرية التي تزيدها وسائل التقدم الإنساني هي أمر حتمي".

وبالتالي، ربما هناك وجهة نظر في ما سبق، ولكن كلما تقدمت البشرية حملت معها أوجهاً جديدة من الإنسانية التي تحاكي بها العقل البشري بإيجابية، وتروّضه على ما هو مستحدث، فعندما حدث عصر الأنوار في أوروبا كان الهدف منه نقل الناس من موضع حكم المقدس المطلق الذي كانت تمليه سلطة الكنيسة نحو عقد اجتماعي جديد يقوم على التفاهم حول السلطة القانونية السيادية، والنزاعات القومية لم تكن سوى إحدى أدوات الدولة الحديثة لابتكار مفهوم الدولة الثورية التي تهدف إلى فرض رؤية وأخلاق ونظرية المنتصر على هذه "الدولة". هذا هو واقع فلسطين والخليج وأفريقيا وإسبانيا والبرتغال والعراق وسوريا ولبنان.

وقد ذكر المؤرخ منير العكش في كتابه "تلمود العم سام" أن الرئيس الأميركي جرالد فورد طلب في العام 1974 حفر حوض سباحة في القصر الأبيض، وتحديداً في حديقة الورد. بعد الحفر، وجدوا هياكل عظمية لسكان أميركا الأصليين، كما وجدوا قدوراً وأدوات أخرى كانوا يستخدمونها. لذلك، ألغوا حفر الحوض، وردموا الحفرة، ثم أعادوا زراعة العشب لطمس الفضيحة! هذا ما فعله الإنسان الأميركي، أي بناء أميركا على أنقاض الأمة الهندية التي أبادها.

واليوم، يقرّرون المنهجيّة نفسها مع لبنان وفلسطين وسوريا، عبر سياسة الإفقار والتجويع الممنهج، بهدف طمس هُوية هذه الشعوب، لتمكين مشروع "صفقة القرن" وبناء الدولة القومية اليهودية على حساب العرب من جهة، وخلق صراعات جانبية من جهة أخرى، تمتد إلى أفغانستان، من أجل محاصرة أي مشروع بديل من الأحادية الأميركية.

في الختام، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت قلوبهم، فالمطلوب هو ترويض المجتمعات على مفاهيم جديدة راقية تقوم على الحس الإنساني والجماعي، وليس المغالاة والإفراط بالأنانية والخطاب الاستعلائي القائم على النزاعات العنصرية وإلغاء الآخر. ولتكن هذه التجارب دروساً نستقي منها وعينا الخاص، ونسهم في إنتاج ثورتنا الخاصة، وليس استرداد ثورة ملونة جاهزة، هدفها تأكّل المجتمعات واستنزافها.