انتخابات "قسد" المحليّة: الشرق السوري أمام الامتحان الأخير

سواء أعلنت "قسد" إلغاء الانتخابات بعد تأجيلها إلى شهر آب/أغسطس المقبل، أو أقدمت على إجرائها بالفعل، فإنّ الواقع في الشرق السوري لن يكون هادئاً أبداً في المرحلة المقبلة.

  • لى بعض قيادات
    لى بعض قيادات "قسد"أنْ تتوقف عن القراءة الخاطئة لمسار التاريخ.

في عام 2017، وبينما كانت المنطقة تشهد صراعات مريرة على امتداد مساحتَي سوريا والعراق، وكان تنظيم "داعش" الإرهابيّ، بإسنادٍ مؤكَّد من جيش الاحتلال الأميركيّ، يعيث فساداً وقتلاً وتدميراً في المدن والبلدات والقرى في البلدين على جانبي الحدود، قررت إدارة إقليم "كردستان" العراق، إجراء استفتاء شعبيّ على الاستقلال، في عموم المناطق التي تحكمها في شماليّ العراق.

ولم تكن الولايات المتحدة الأميركية بعيدة أبداً عن هذا القرار، الذي أدى إلى استنفار حكومات العراق والبلدان المجاورة، وكاد يتسبّب بحربٍ جديدة تأهَّب لها الجميع في حينه. وقبل موعد الاستفتاء المفترض، في أيلول/سبتمبر منذ ذلك العام، لم يبق ثمّة داعم واحد لهذا القرار، سوى الكيان الصهيونيّ، الذي أعلن دعمه الصريح له، بحيث إنّ واشنطن ذاتها بدأت إطلاق التحذيرات من خطورة خطوة كهذه، الأمر الذي دفع إدارة الإقليم إلى إلغاء الاستفتاء بعد أشهرٍ من إصرارها عليه. 

في عام 2024، أعلنت "الإدارة الذاتية" في الشرق السوريّ عزمها إجراء انتخابات محليّة في المناطق التي تسيطر عليها، بدعم ورعاية من الولايات المتحدة الأميركية وقواتها العسكرية التي تحتل أجزاء غالية من الشرق السوريّ. وحدّدت موعد 11 حزيران/يوليو الجاريّ، موعداً لإجرائها، على أنْ تشمل هذه العملية مناطق "مقاطعتي الفرات والرقة"، ومنبج وعفرين والشهباء في ريف حلب، والمدن والبلدات في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور، وعموم مدن وبلدات محافظة الحسكة وقراها. وبطبيعة الحال، لم يكن هذا القرار، بدوره، بعيداً عن المشيئة الأميركية وخططها التقسيمية للمنطقة. 

سريعاً، أعلنت كل حكومات الإقليم المعنيّة، وفي طليعتها الشرعيّة السورية في دمشق، رفضها هذا الإجراء وتحذيرها منه. كذلك فعلت موسكو وطهران، بينما لوّحت أنقرة بإمكان العودة إلى الخيار العسكريّ ضد "قسد"، التي تُشكّل سلطة أمر واقع في الشرق السوريّ.

ووسط هذا التشنّج الملحوظ والتحذيرات شديدة اللهجة، أعلنت خارجيّة الولايات المتحدة الأميركية، على استحياء، أنّ أيّ انتخابات تجري في سوريا، "يجب أنْ تكون حرة ونزيهة وشفافة، كما دعا قرار مجلس الأمن 2254"، وأنّ الخارجية الأميركية لا تعتقد "أنّ الظروف الملائمة لمثل هذه الانتخابات متوافرة في شمالي سوريا في الوقت الحاضر"، أي أنّ واشنطن لم ترفض هذه الخطوة تماماً، بل تركتها ورقة مُعلّقة قيد الاستخدام عند الحاجة، الأمر الذي دفع "الإدارة الذاتية" إلى إعلان تأجيل الانتخابات المحلية، حتى آب/أغسطس المقبل. وعلّل بيان الإدارة الذاتية، الذي صدر يوم 6 حزيران/يوليو، هذا التأجيل بعدم جاهزية القوى السياسية المحلية، واستجابة للمطالب الواردة من جانب الأحزاب والتحالفات السياسية، التي من المفترض أن تشارك في هذه الانتخابات، والتي، بحسب البيان، طالبت المفوضية العليا بتأجيلها "بسبب ضيق الوقت المخصّص للفترة الدعائية، ومن أجل تأمين المدة الكافية لمخاطبة المنظمات الدولية لمراقبة سير العملية الانتخابيّة".

بدا تبرير "الإدارة الذاتية" لتأجيل الانتخابات غير مقنع وغير متماسك، كما أنه غير مرتبط بصورة قوي ومباشرة بالتصريحات الأميركية بشأن "الظروف غير الملائمة"، فلقد كان في إمكان واشنطن أن تمنع، من الأساس، إعلان خطوة إجراء الانتخابات ذاتها، وخصوصاً أنّ "الإدارة الذاتية" لا تتمتّع باستقلالية القرار عن قوات الاحتلال الأميركيّ، ولا بحريّة "الاجتهاد" في مسائل كبيرة كهذه. والواقع أنّ الإعلانين الأول والثاني (تحديد الموعد ثم تأجيله)، تمّا بدفعٍ من واشنطن، ولغايات أميركية توافقت مع الآمال والرغبات لعدد من الساسة والقادة الكرد في "قسد".  

أرادت واشنطن إعادة خلط الأوراق في المنطقة الشرقية من سوريا، واستفزاز السوريين والروس والإيرانيين والعراقيين وإلهاءهم بصراعات سياسية وميدانية جديدة في الداخل السوريّ، ومحاولة تمرير هذا الإجراء، الذي يُمكّن "قسد" من إحراز بعض "الشرعية" التي تُخوّلها تجييرها لقوات الاحتلال الأميركي ومسألة وجودها في الأرض السورية.

من جهتها، أرادت "قسد" كسب تلك "الشرعية" عن طريق انتخابات شعبية محليّة، تحوّل إدارتها تلك من حالة أمرٍ واقعٍ، مفروض بالقوة العسكرية والمساعدة الأميركية، إلى "حالة ديمقراطية" فرضتها الإرادة الشعبية لسكان الشرق السوريّ، وأنْ يُقدَّم كل هذا في إطار "التجربة" الجيدة الذي استطاعت واشنطن و"قسد" تقديمها كأنموذج يُحتذى بعيداً عن سيطرة الدولة السورية، أي في طريق خطة التقسيم المأمولة أميركيّاً.  

عمليّاً، لم يتأخّر محور المقاومة، التي تقع سوريا في قلبه، من الردّ على الأرض، فأعلنت مجموعة من فصائل المقاومة في العراق وسوريا استئناف هجماتها على القواعد الأميركية في سوريا والعراق، بعد فرصة أربعة أشهر، منحتها فصائل المقاومة للحكومة العراقية وقوات الاحتلال الأميركي، لجدولة انسحاب الأخيرة من العراق بصورة واضحة ونهائيّة.

وبعيداً عن التغطية الإعلامية الملائمة، سجّلت القواعد الأميركية، في الأسابيع الأخيرة، تلقّيها عدة هجمات بالصواريخ والطيران المسيّر، سواء في الشرق السوري أو الداخل العراقيّ، كان آخرها استهداف قاعدة الاحتلال الأميركي الأكبر في منطقة "التنف" الحدودية بين سوريا والعراق، بالطيران المسيّر، صباح يوم السبت 29 حزيران/يوليو، وهي المرّة الثانية التي تُستهدف فيها تلك القاعدة بطائرات مسيّرة، خلال أسبوع، والثالثة خلال أقل من نصف شهر. وكانت قاعدة "عين الأسد" في الداخل العراقيّ تعرّضت، في وقت سابق، من هذا الشهر، لهجومٍ بطائرة مفخّخة استهدف مرأب طائرات داخل القاعدة، أدى إلى تدميرها، بحسب تصريح للناطق باسم "قوات التحالف"، واين ماروتو.

وأدّت الهجمات الأخيرة إلى استقدام القوات الأميركية تعزيزات عسكرية ولوجستية جديدة إلى محيط قواعدها في الشرق السوريّ. 

ميدانيّاً أيضاً، عادت وتيرة الاشتباكات بين مجموعات من "قوات العشائر" و"قسد" إلى التصاعد بعد إعلان الأخيرة خطوة "الانتخابات"، وسط رفض واسع من أبناء الجزيرة السورية لهذا القرار، الذي يهدف، وفق رأيهم، إلى تعزيز سطوة "قسد" على المنطقة وأهلها. وتشهد أرياف دير الزور الشرقية، بصورة خاصة، اشتباكات وحوادث يومية بين الطرفين، ليتطور الأمر إلى اشتباك بين قوات "الفيلق الخامس"، التابع للجيش العربي السوريّ، مع مجموعات عسكرية من "قسد" يوم الخميس الفائت، قرب معبر نهريّ شرقي مدينة دير الزور. 

من جهة أخرى، وفي السياق ذاته، عجّلت خطوة "قسد" وتيرة العمل على مسار ملف العلاقات السورية – التركية. وأبدت أنقرة اهتماماً كبيراً بالحدث، وأطلقت تحذيرات جدّية بشأن نيّتها القيام بعملية عسكرية ضد "قسد" إذا ذهبت الأخيرة بعيداً في إجراءاتها تلك. وعبّر الرئيس التركيّ، رجب طيب إردوغان، عقب لقاء وزير خارجيّته، حاقان فيدان، والرئيس الروسيّ، فلاديمير بوتين، على هامش قمّة دول "مجموعة بريكس"، يوم 11 حزيران/يوليو الجاري، عن خطورة الأهداف الانفصالية الكردية في سوريا، وعن عزم بلاده التعاون مع جميع الأطراف لمنعها، ملمّحاً، من خلال تأكيده "رفض الإدارة السورية" هذه الأفعال، إلى استعداد بلاده للتعاون مع دمشق على هذا الصعيد. وأكّد إردوغان أن وزير خارجيّته ناقش مع الرئيس الروسيّ، بصورة مفصّلة، موضوع الانتخابات، التي تزمع "قسد" إجراءها في الشرق السوريّ، مؤكّداً خيار التدخل العسكريّ المباشر في حال القيام بتلك الخطوة الاستفزازية.

جاء الإعلان الأميركيّ الخجول بشأن "الظرف غير الملائم" كرسالةٍ إلى تركيا، بصورة خاصة، لكنْ من الواضح أنّ أنقرة لم تعد تثق بجدوى تفاهماتها مع واشنطن في الساحة السورية، واتّخذت قرارها المضيّ قدماً نحو التعاون مع دمشق وموسكو وطهران، وسيكون لاجتماع "آستانا" المزمع عقده بداية هذا الشهر، أهمية خاصة في هذا المسار. 

في النتيجة، سواء أعلنت "قسد" إلغاء الانتخابات بعد تأجيلها إلى شهر آب/أغسطس المقبل، أو أقدمت على إجرائها بالفعل، فإنّ الواقع في الشرق السوري لن يكون هادئاً أبداً في المرحلة المقبلة.

وعلى بعض قيادات "قسد"، برأي جميع الأطراف المعنية، أنْ تتوقف عن القراءة الخاطئة لمسار التاريخ، وأنْ تدرك أنّ الشرعية السورية في العاصمة دمشق، قبل غيرها، لن تسمح بأيّ إجراء أو عمل تقسيميّ أو انفصاليّ، وأنّ من الأجدى العودة إلى الواقعية التي تستند إلى ظروف سوريا وموقعها الحالي الأقوى من أي وقتٍ مضى خلال الأعوام العشرة الأخيرة، وإلى وقائع المنطقة المستجدة ومعطيات الميدان في الشمال والشرق السوريين، وأنْ تقصد دمشق سريعاً للتفاوض على حلّ يضمن وحدة البلاد وسيادة دولتها على جميع أراضيها، وخصوصاً أنّ وضع قوات الاحتلال الأميركيّ في سوريا والعراق قد يبدأ يتغير قريباً، سواء بقيت إدارة الرئيس جو بايدن في الحكم، أو وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ويمكن لـ"قسد" الاستماع إلى بعض "النصائح الأميركية" المتعلقة بهذا الموضوع، ومنها نصائح السفير الأميركي السابق في دمشق، روبرت فورد.