بعد تعثر المفاوضات وجهود الوساطة... كيف يمكن كسر الاستعصاء؟

طوفان الأقصى ليس فعلاً تكتيكياً، ولا هو مجرد مواجهة عسكرية أخرى بين الفلسطينيين والاحتلال الفاشي – العنصري، بل هو إيذان بولوج مرحلة جديدة، لن تقف تأثيراتها عند حدود فلسطين وحدها.

  • كيف يمكن مجابهة هذا المخطط، وكسر هذا
    كيف يمكن مجابهة هذا المخطط، وكسر هذا "الاستعصاء"؟

دخلت جهود وقف حرب التطهير والتطويق والإبادة، والتي تشنها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني ومقاومته، مرحلة الجمود والاستعصاء... لا مفاوضات جدية و"ذات مغزى" تجري في الخفاء والعلن، ولا مبادرات دولية وأممية مطروحة على "الطاولة"، ولا نهاية وشيكة، مرئية، للكارثة الإنسانية، غير المسبوقة، والتي تعتصر البشر والشجر والحجر في قطاع غزة.

واشنطن و"تل أبيب" تتجهان، على ما يبدو، إلى اعتماد مقاربة جديدة، فحواها: مستوى منخفض من حرب مفتوحة في قطاع غزة، مدعَّمٌ بتسييل قدر أعلى من المساعدات والإغاثة، وجهود تُبذل على "نار المرحلة الثالثة"، الهادئة للحرب، إلى أن تهبط المعجزة، وتتمكن الحليفتان الاستراتيجيتان من بلورة صيغة لإدارة غزة، من دون حماس والمقاومة بالطبع.

تكمن خلف هذه المقاربة جملة أهداف، أهمها تفادي تطور الحرب إلى مواجهة إقليمية واسعة، لا ترغب فيها واشنطن، ولا تقوى عليها "تل أبيب"، ومن بينها ولا تقل أهمية عنها، أهداف تتصل بمشروع التهجير القسري المتدثر بـ"لبوس طوعي"، فضلاً عن استحداث الفجوة والانفصال بين المقاومة وبيئتها الاجتماعية الحاضنة.

كيف يمكن مجابهة هذا المخطط، وكسر هذا "الاستعصاء"؟

ثلاثة محركات رئيسة دفعت المجتمع الدولي إلى الاستنفار السياسي والتحرك لوقف حرب التطهير والإبادة، تبدّلت أوزانها مع استطالة أمد الحرب، وتعاقب فصولها:

(1) حجم الكارثة الإنسانية المترتبة على العدوان المجرم، إذ جرى النظر إليها بصفتها الكارثة الأكبر من صنع الإنسان في أزمنتنا الراهنة. (2) المقاومة الباسلة والكفؤة، التي نهضت تحدّياً وجودياً لكيان لطالما فاخر بأن له "جيشاً لا يُقهر" واعتاد خوض الحروب الخاطفة وتسجيل انتصارات لا لبس فيها، ودائماً على أرض العدو. (3) الخشية من اتساع نطاق الحرب لتطال الإقليم برمته، ولاسيما بعد دخول جبهات الإسناد خط المواجهة، وتنامي المؤشرات الدالّة على إمكان انزلاق المنطقة من حافة الهاوية إلى قعرها.

العامل الأول، الإنساني: لا يبدو أن هول المأساة الإنسانية، ما زال يُعَدّ سبباً كافياً لتشغيل محركات البحث الدولية عن "تسوية سياسية" تشتمل على وقف العدوان وسحب الغزاة وتبادل الأسرى والشروع في تقديم مساعدات ذات مغزى من ضمن استراتيجية للتعافي المبكر وإعادة الإعمار. الضمير العالمي أخذ يعتاد المشاهد والصورة المنبعثة من غزة، وقوة الضغط وزخم التحركات الضاغطة لإدخال المساعدات، تتراجع. وبعد أكثر من 260 يوماً من الحرب المدمرة، لا يدخل القطاع سوى عدد أقل من شاحنات الغذاء والدواء والمساعدات.

تأثير "العامل الإنساني" آخذ في التناقص، بعد أن "تبلّد" الضمير العالمي، وأخذ يكتفي بعدّ أرقام الشهداء والجرحى والبيوت المهدمة، والتحذير من خطر مجاعة قادمة، مع أنها قائمة بكل أبعادها البشعة، وتحصد حياة مئات الأطفال والشيوخ، بينما المنظمات الدولية غارقة في "جدل بيزنطي" بشأن شروط إعلان المجاعة رسمياً في قطاع غزة، مع أن تقارير هذه المنظمات ذاتها لطالما أظهرت أن أكثر من نصف ضحايا المجاعة، يسقطون قتلى قبل إعلانها رسمياً. "الورقة الإنسانية" لم تعد تحظى بالتأثير ذاته.

العامل العسكري الميداني، سيجري "التحايل" عليه، عند الانتقال إلى "المرحلة الثالثة" للحرب، ويبدو أن رهان واشنطن و"تل أبيب" المشترك أن المجتمع الدولي في مقدوره التكيّف مع سقوط 30 – 40 ضحية يومياً من الفلسطينيين. الأرقام المفزعة في بدايات الحرب الأولى، وسياسة القتل بالجملة التي اعتمدت في بداية الحرب، يمكن إبدالها بسياسة القتل بالمفرق. وتراهن الحليفتان الاستراتيجيتان على أن الانتقال إلى هذا التكتيك يمكن أن يخفف وطأة جبهات الإسناد، ويحتوى نيرانها المشتعلة، ويحقق هدفهما المشترك عبر الاستفراد بغزة، وطرد شبح الحرب الإقليمية، أو إبعاده إلى الوراء قليلاً.

بعد تسعة أشهر من الحرب، لم تعد المقاومة الفلسطينية تخوض فقط معارك صد وتعرّض لمحاور الاختراق على نطاق واسع، بل انتقلت أيضاً إلى تكتيك "الاستنزاف" المُستَلّ من قاموس حرب العصابات الشعبية طويلة الأمد.

مثل هذا المنسوب من المعارك، تعمل "إسرائيل" على التكيف معه، وتحمّل تبعاته، ولاسيما إن اشتملت المرحلة الثالثة على سحب القوات البرية غزة، أقله من مناطق الكثافة السكانية. المقاومة الفلسطينية صامدة وما زالت قادرة على إلحاق الخسائر في صفوف عدوها، في العتاد والعديد، بيد أن انخفاض منسوب المعارك والمواجهات الكبرى يعطي نتنياهو وفريقه الساعي لإطالة أمد الحرب الفرصة في فعل ذلك، بقدرٍ أقل من الاعتراضات الشعبية والدولية.

يبقى العامل الثالث، جبهات الإسناد، التي تؤدي اليوم، أكثر من أي وقت مضى، دوراً متزايداً في التأثير في مسارات تطور الحرب ومآلاتها، وربما تكون عاملاً حاسماً في تقرير لحظة انتهائها، من دون أن يعني ذلك، لحظةً واحدة، تقليلاً من شأن الفعل الفلسطيني المقاوم، لا في غزة ولا في الضفة الغربية.

بهذا المعنى، تبدو مسؤولية جبهات الإسناد متعاظمة هذه الأيام. والمؤكد أن قيادات هذه الجبهات تدرك ما يُحاك لها وللفلسطينيين، على حد سواء، وهي إن لم تترك مجالاً للشك في صدقية التزامها إسناد غزة حتى تضع الحرب أوزارها، إلا أنها تواجه اليوم، مسؤولية الإبقاء على منسوب متصاعد من المواجهة وتوسيع "الشراكة" في الحرب، كما فعلت الأسابيع الفائتة، بحيث أظهرت، بما لا يدع مجالاً للبس أو التباس، أن هذه الجبهات انتقلت فعلاً من الإسناد والمشاغلة إلى الانخراط والشراكة في الحرب ويومياتها.

طوفان الأقصى ليس فعلاً تكتيكياً، ولا هو مجرد مواجهة عسكرية أخرى بين الفلسطينيين والاحتلال الفاشي – العنصري، بل هو إيذان بولوج مرحلة جديدة، لن تقف تأثيراتها عند حدود فلسطين وحدها، بل ستطاول الإقليم برمته.

هي معركة وجود، لا يجوز، في حال من الأحوال، السماح بتبديد زخمها ومكتسباتها، على موائد المبادرات والمشاريع والمفاوضات. على أطراف هذا المحور، وفي القلب منها، فصائل المقاومة الفلسطينية، أن تستفيد من دروس تجربة ممتدة ما يقرب قرناً من الزمان، بدءاً بثورة عام 1936، كانت حافلة بالتضحيات الجسام والبطولات الفائقة في الميادين، لكنها لم تأت بالنتائج المتلائمة مع حسابات الميدان ومجرياته.

ولأنها حرب ستقرر شكل الإقليم وصورته، وستصوغ معادلاته وتوازنات القوى المكونة له، فإن الحذر واجب من الكمائن والفِخاخ التي ينصبها "محور الشر"، الممتد من واشنطن حتى تل أبيب، ويمر في عدد من عواصم العرب، لتسويق المقاربات الجديدة وتسويغها، بصفتها الخيار الوحيد الذي يتعين على الفلسطينيين وحلفائهم الأخذ به، فتكلفة التصعيد، مهما تعاظمت، ستظل أقل كثيراً من تكاليف إجهاض مكتسبات الطوفان والإسناد، أو تبديدها.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.