حرب مالي ضد الإرهاب.. لماذا احتدمت المعارك؟

ما الداعي لوجود القوات الأجنبية والمساعدة المزعومة التي قدّمتها لمالي إن كان انسحابها سيعيد الوضع إلى حاله التي كان عليها قبل تدخلها؟

  • قفزة في الهجمات الإرهابية شمالي مالي.
    قفزة في الهجمات الإرهابية شمالي مالي.

خلال أقلّ من أسبوع، عصفت موجة هجمات إرهابية شديدة بالأقاليم الشمالية لمالي مخلّفة 65 قتيلاً في الأقل بين مدني وعسكري. تأتي هذه الموجة متزامنة مع بدء عملية انسحاب بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعدّدة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) وتسليم معسكراتها في آب/أغسطس الماضي، والتي يواكبها سعي الجيش المالي الملحوظ والحثيث لاسترداد السيطرة على الأقاليم الشمالية التي لطالما عدّت مناطق فراغ حوكمي وانفلات أمني ومواطن للإرهاب والاختراق الأجنبي.

في خضم هذه الأحداث، يرى تصاعد موجة خطاب غربية مشكّكة تنطوي على مراهنة على فشل الحكومة الانتقالية في مالي في حوكمة نطاقها الجغرافي أمنياً وعجزها المتوقع عن وقف التدرج المتصاعد للتهديدات الإرهابية، ولا سيما في أقاليم غاو وتمبكتو وكيدال.

قفزة في الهجمات الإرهابية شمالي مالي

في 7 أيلول/سبتمبر 2023، نفذت "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" التابعة لتنظيم "القاعدة" الإرهابي هجوماً على عبّارة "تمبكتو" النهرية ثلاثية الطوابق قرب قرية زارهو (90 كلم شرق تمبكتو) أثناء نقلها مواطنين عبر خط غاو-موبتي على نهر النيجر. ويستخدم هذا الطريق المائي من طرف العديد من السكان والتجار والعائلات باعتباره أكثر أماناً للكثيرين من الطرق البرية.

ووفقاً لما نشره الجيش المالي، تعرضت العبّارة لإطلاق 3 قذائف صاروخية على الأقل استهدفت محرّكها. وفي اليوم نفسه، شنّ التنظيم ذاته هجوماً بسيارة مفخخة على موقع للجيش المالي في منطقة بامبا في إقليم غاو الشمالي.

واستناداً إلى الحصيلة الرسمية التي أعلنتها الحكومة المالية، خلّف الهجومان مقتل ما لا يقل عن 49 مدنياً و15 جندياً مالياً أعلن في إثرهما الحداد الوطني لمدة 3 أيام في جميع أنحاء مالي.

ردّاً على الهجومين، نفّذ الجيش المالي عمليات قصف جويّة وبرية مكّنت من تحييد نحو 50 مسلحاً وفقاً لبيان الحصيلة الذي نشره الجيش المالي يوم 7 أيلول/سبتمبر، وهو رد ينبئ بانبعاث حرب ستتأجج في المستقبل القريب بين الجيش المالي والتنظيمات الإرهابية وحلفائها.

ترويع أشد

إنّ أول ما يسترعي الانتباه في الهجوم على عبّارة "تمبكتو" النهرية هو ثقل حصيلة ضحاياه، علاوة على تكتيك تنفيذه الذي اعتمد على القصف الصاروخي لمحرّك العبّارة التي تصل قدرة استيعابها إلى 300 راكب وفقاً للشركة المشغلة لها. 

وليس ثمة رقم رسمي يخبرنا بعدد ركاب العبّارة، ولكن من البيّن أنّ هدف قتل أكبر عدد منهم كان المحدّد الرئيس لاختيار تكتيك تنفيذ الهجوم، فلا غرض من استهداف قارب في حالة سير على متنه ركاب بقذائف صاروخية وجهت نحو محركه إلا قتل أكبر عدد ممكن من الركاب إما تفجيراً أو إغراقاً.

اللافت في الهجومين ضدّ عبارة تمبكتو وقاعدة بامبا العسكرية أنهما جاءا متزامنين، لكنهما متفرقان. إن هذا التكتيك في التنفيذ يسمح بتحقيق الهدف السابق أيضاً، أي إسقاط أكبر عدد ممكن من القتلى، لكنه يضمن على نحو مواكب تشتيت جهود الجيش المالي الدفاعية وإرباك ردود فعله، كما يعطي الانطباع بالانتشار الواسع للتنظيم الإرهابي المنفّذ ومسلّحيه وقدرته على تنفيذ هجومين متفرقين منسقين بأداتين مختلفتين: القصف الصاروخي والتفخيخ.

وسواء تعلق الأمر بالحصيلة الفادحة للهجومين أو بتزامنهما، فإن إحداث أكبر قدر من الترويع محلياً على نحو يبذر الشك واللايقين في حاضر مالي الأمني ومستقبلها هو أيضاً هدف محوري يصبو إليه تنظيم "القاعدة" ومن يقف وراءه. 

وكلما تضاعف عدد الهجمات وقتلاها زاد حرج السلطات الانتقالية في مالي أمام الرأي العام المحلي والمجموعة الدولية، واحتدمت ورطتها وصار التشكيك في قدراتها على القيام بما كانت تقوم به القوات الأجنبية شرعياً ومبرراً.

استهداف مناطق تموضع القوات الأجنبية سابقاً

الأهم من هذا وذاك هو استهداف الهجومين المذكورين مواقع تقع في مناطق تنتمي إلى الحيز الجغرافي الذي عرف بتمركز القوات الأجنبية ونشاطها منذ كانون الثاني/يناير 2013.

سواء تعلّق الأمر بـ"عملية سيرفال" (كانون الثاني/يناير 2013 إلى تموز/يوليو 2014) أو بـ"عملية برخان" (من آب/أغسطس 2014 إلى تشرين الثاني/نوفمبر 2022) العسكريتين الفرنسيتين، أو بالقوات التي عملت تحت غطاء "مهمة تاكوبا" التابعة للاتحاد الأوربي (من آذار/مارس 2020 إلى حزيران/يونيو 2022)، أو حتى القوات الأممية الناشطة تحت غطاء "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعدّدة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي" (منذ نيسان/أبريل 2014)، فإنّ إقليمَي غاو وتمبكتو -فضلاً عن المناطق المنتمية إلى المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو المعروف باسم "إقليم ليبتاكو-غورما"- كانا في قلب الحزام الجغرافي الذي غطته العمليات والقوات السابقة عسكرياً وأمنياً.

والواقع أنّ هذا التمركز تبرره حقائق أمنية، أبرزها أن أقاليم مالي الشمالية كانت تاريخياً مناطق لنشاط بعض الحركات الانفصالية الأزوادية وقاعدة لتمركز عدة تنظيمات إرهابية منذ بداية الألفية. وعام 2013، قام تحالف بين تنظيم انفصالي هو "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" وتنظيم إرهابي هو "تنظيم القاعدة" بإنجاب محاولة انفصال لما سمي "دولة أزواد" عن مالي. وقد اختيرت تمبكتو وقتها عاصمة للدولة المزعومة.

نحو احتدام المعارك

إنَّ وضع قدرة الجيش المالي الأمنية والعسكرية على التحكّم في كامل الفضاءات الجغرافية شمال مالي موضع نقاش هو أمر في غير محله، ذلك أنَّ العارف بشدة التداخل بين عوامل التأزم السياسية والأمنية والسوسيو-ثقافية في أقاليم غاو وكيدال وتمبكتو، والبنية القبلية لهذه الأقاليم وطول أمد الأزمة فيها، يدرك على نحو لا يتسرب إليه شكّ أن معركة استرداد الشمال وبسط سلطة الحكومة والجيش الماليين عليه هي معركة طويلة الأمد ستتخللها انتكاسات كثيرة لا محالة، فعلاوةً على كونها معركة استرداد، فهي معركة في سبيل الوحدة ضدّ النزعة الانفصالية المتأصلة لدى بعض المكونات الأزوادية منذ استقلال مالي، وتلكم هي أصعب معركة.

وبناء عليه، بدلاً من الانسياق وراء هذا النقاش، حريّ بنا ونحن نرى شراسة وهمجية الهجمات الإرهابية الآيلة إلى الاشتداد في الأقاليم الشمالية لمالي، أن نتساءل عن الإضافة التي قدمتها كل تلك العمليات العسكرية الفرنسية والأوروبية والأممية لمالي طيلة العقد الماضي! ثم ما الداعي لوجود القوات الأجنبية والمساعدة المزعومة التي قدمتها لها إن كان انسحابها سيعيد الوضع إلى حاله التي كان عليها قبل تدخلها؟ 

إنَّ الخوض في هذا النقاش بدلاً من التفكير في آليات أكثر نجاعة تسمح للدولة والجيش الماليين بالاضطلاع بأدوارهما كاملة في عموم إقليم مالي الترابي ومواجهة موجات الإرهاب والتطرف المستحثة في كثير من الأحيان، هو وقوع في فخ المنادين بأطروحة التدخل العسكري الأجنبي التي يجري التأكد من فشلها الذريع تجربة إثر أخرى. 

إنها فرصة لبناء تصورات جديدة تعمل على مرافقة مالي -ودول الساحل عموماً- وتأهيلها للقيام بما يعد مهمة حصرية لها بدلاً من الاعتماد على التصوّر التدخلي القديم الذي يُبنى على فكرة الحلول محل دول المنطقة وجيوشها، فلا ينتهي إلا إلى تركها هشة ومنكشفة وتابعة.

هذا تحديداً ما تريده فرنسا. لذا، إن الربط بين الطفرة في الهجمات الإرهابية شمالي مالي والتواطؤ الفرنسي مع بعض التنظيمات المحلية هو ربط منطقي تعضده شواهد في أرض الواقع، لعل آخرها تلك العملية العسكرية التي نفذها مسلحون تابعون للحركات الانفصالية الأزوادية المدعومة من فرنسا في محافظة بوريم شمال البلاد. كما أنَّ الحركية الجيوسياسية الأخيرة الحاصلة في إقليم الساحل والمناهضة للوجود والنفوذ الفرنسيين هي عامل آخر يدعم هذا الطرح.