دلالات تحوّل مسار الصراع في السودان
مسار الصراع في السودان بدأ يتصاعد بعدما كان الجيش السوداني قد أعلن أنه استعاد الخرطوم، وبدأ يفرض سيطرته ويقترب من حسم معركته مع قوات "الدعم السريع".
-
تطورات مسار الصراع الحاصلة مؤخراً في السودان تدفع باتجاه قراءات جديدة.
كشفت الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" جملة حقائق تتجاوز الجغرافيا التقليدية للصراعات المحلية والداخلية، وبالتالي فإن فهم مسار تلك الصراعات ومستقبلها ونهايتها بات يتجاوز الحسابات والإمكانيات والقدرات الذاتية للأطراف المتصارعة إلى الأطراف الخارجية.
الصراع الدائر في السودان نموذج واضح وفاضح للحروب العابرة للجغرافيا؛ أو الحرب بالوكالة، ولم يعد الصراع في السودان مقتصراً على الجيش السوداني و"الدعم السريع"، هذا ظاهر الصراع، أما باطنه فتُدلل الحيثيات الحاصلة أن هناك أطرافاً خارجية، إقليمية ودولية، تُحرك هذا الصراع وتوظّفه وتتحكّم بمساراته.
شواهد التدخّل الخارجي في حيثيات الصراع الداخلي الدائر في السودان تجلّت في التطورات التي عاشها المشهد السوداني مؤخراً، ففي نهاية آذار/ مارس 2025؛ أعلن الجيش السوداني أنه استعاد العاصمة الخرطوم، ما يعني الاقتراب من حسم المعركة مع قوات "الدعم السريع".
وبدأ الجيش فرض سيطرته، وقابل الشارع السوداني ذلك بارتياح، وبدأت القراءات والتقديرات تدفع باتجاه أن الصراع في السودان بات قريباً من الحسم والانتهاء، وأن الجيش سيفرض سيطرته الكاملة، وبدأ قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، التحرك والقيام بجولات وزيارات دبلوماسية خارجية.
ولكن، لم يمض على ذلك أكثر من بضعة أيام، حتى تحوّلت حيثيات المعركة ومسارات الصراع، وشهدت عودة مفاجئة لقوات "الدعم السريع"، وهذه المرة بأدوات جديدة، إذ أدخلت قوات "الدعم السريع" الطائرات المُسيّرة في المواجهة. واستهدفت مناطق جديدة وصلت إلى منطقة بورتسودان التي أعلن الجيش السوداني في 4 أيار/ مايو 2025 تعرض مطارها وبنيتها التحتية للاستهداف بواسطة الطائرات المُسيّرة.
والسؤال كيف تمكنت قوات "الدعم السريع" من العودة المفاجئة وخلال أيام قليلة؟، وكيف تمتلك قوات "الدعم السريع" في بلد يعاني وفق تقديرات المنظمات الدولية والأممية من الجوع والفقر والحرب تقنية وإمكانية استخدام الطائرات المُسيرة؟، والأهم ماذا تعني عودة قوات "الدعم السريع" للاشتباك؟، والأهم قدرتها على استهداف مواقع وأماكن استراتيجية مثل مطار بورتسودان.
استهداف قوات "الدعم السريع" مطار بورتسودان من خلال الطائرات المُسيرة لا يخلو من الدلالات العابرة للحسابات وللجغرافيا السودانية، ذلك أنه على ما يبدو أن أطرافاً خارجية لم تقبل بإعلان الجيش السوداني السيطرة على الخرطوم واقترابه من حسم الصراع، فتدخلت ودعمت وأوعزت هذه الأطراف إلى قوات "الدعم السريع" بتغيير حيثيات المواجهة لجهة إدخال المسيرات واستحداث مناطق صراع جديدة.
ذلك أن بورتسودان كانت منطقة خارج الاشتباك، وتمتعت بهدوء نسبي منذ اندلاع المواجهة بين الجيش وقوات "الدعم السريع" في نيسان/ أبريل 2023، وأصبحت المدينة الساحلية المطلة على البحر الأحمر قاعدة للحكومة المحسوبة على الجيش السوداني بعدما استباحت قوات "الدعم السريع" العاصمة الخرطوم في بداية الصراع.
لم يكن هجوم قوات "الدعم السريع" على منطقة بورتسودان محدوداً أو مؤقتاً، بل استمر أياماً عدة متتالية وبالوتيرة نفسها ما يعني أنه أصبح لدى قوات "الدعم السريع" قوة جديدة، وربما فائض قوة في الطائرات المسيرة، واتضح من طبيعة الهجمات على المطار ومحطات الكهرباء أن قوات "الدعم السريع" تريد التدمير والترهيب وتستهدف البنى التحتية، وقد اشتعلت مستودعات الوقود في المطار، واستهدفت قاعدة عثمان دقنة الجوية. وتصاعدت أعمدة الدخان في المنطقة المحيطة بمطار بورتسودان، التي تبعد نحو 650 كيلومتراً عن أقرب قاعدة معلنة لقوات "الدعم السريع" في ضواحي العاصمة الخرطوم. وفي ولاية كسلا على بعد 500 كيلومتر جنوب بورتسودان، قرب الحدود السودانية-الإريترية، استهدفت مسيّرات، مطار المدينة. ودلالة هذا أن هناك تحوّلاً في أدوات الصراع في السودان وأهدافه وجغرافيته. وأن جبهة جديدة فُتحت عنوانها الطائرات المُسيّرة.
اللافت في تحوّلات مسار الصراع وأدواته وأطرافه؛ أن الصراع قد تدحرج، وأن السودان بات ساحة صراع خارجي إقليمي ودولي، تجلى ذلك في اتهام الناطق الرسمي باسم الحكومة وزير الإعلام والثقافة السوداني، خالد الإعيسر، دولة الإمارات بتزويد قوات "الدعم السريع" بـ "طائرات مسيّرة متطورة تُدار من غرف تحكم في أبو ظبي". وقد أضاف الإعيسر أن "هذا الاعتداء يُؤكد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذه الحرب ليست مجرد تمرد من ميليشيا الدعم السريع، بل هي عدوان مكتمل الأركان تديره وتدعمه دولة الإمارات".
والمفارقة اللافتة أن الإمارات كانت قد أعلنت قبل أيام أنها ضبطت شحنة أسلحة مقدارها خمسة ملايين قطعة سلاح في أحد مطاراتها في طريقها إلى الجيش السوداني، وهو ما نفاه الجيش السوداني. وفي التوقيت ذاته، رفضت محكمة العدل الدولية الدعوى التي قدّمها السودان ضد الإمارات العربية المتحدة بتهمة التواطؤ في ارتكاب إبادة جماعية في الحرب المستمرة في السودان، وقالت المحكمة، إنها تفتقر إلى الاختصاص القضائي للبتّ في القضية، وقررت رفض الدعوى.
وفي 7 أيار/ مايو 2023، قرر مجلس الأمن والدفاع السوداني قطع علاقات السودان الدبلوماسية مع الإمارات، مُتهماً إياها بشن عدوان على البلاد عبر دعمها قوات "الدعم السريع"، التي واصلت هجماتها بالمسيرات الانتحارية على بورتسودان، وعليه قرر المجلس "على إثر هذا العدوان المستمر، إعلان دولة الإمارات العربية المتحدة دولة عدوان وقطع العلاقات الدبلوماسية معها، وسحب السفارة السودانية والقنصلية العامة".
إن تطورات مسار الصراع الحاصلة مؤخراً في السودان تدفع باتجاه قراءات جديدة، أهمها أن تدخل الأطراف الخارجية في الصراع بات واضحاً ومُعلناً، والجديد أن الجيش السوداني اتخذ خطوات عملية وقرر مقاطعة تلك الأطراف، ولم يكتف بالتلويح بالمحكمة الدولية فقط، والتطور الآخر دخول الطائرات المسيرة في المواجهة؛ صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تُستخدم فيها المُسيّرات؛ لكنها لم تُستخدم من قبل بهذه الكثافة وتلك المسافات.
والملاحظ أن امتلاك قوات "الدعم السريع" المُسيرات واستخدامها جاء بعد إعلان الجيش السوداني السيطرة على الخرطوم واستعادتها بأيام قليلة فقط، ودلالة المُسيرات في الصراع أن "الدعم السريع" لديها فائض عددي كبير في عناصره وإدخال المُسيرات سيدعم هذا الفائض، وبالتالي قد تنقلب المعادلة في الأيام القادمة ما بين "الدعم السريع" والجيش وقد تسقط الخرطوم، وإن حدث ذلك، سيعني أن مسار الصراع في السودان سيختلف تماماً.
والسؤال هل ستترك الأطراف الخارجية الداعمة للجيش هذا السيناريو ليتحقق، أم ستقوم بدعم الجيش السوداني؛ ويبدو ذلك الأقرب للحدوث، وقد جاء على لسان المتحدث باسم الجيش السوداني أن "أنظمة الدفاع المضادة للطائرات اعترضت وتصدت بنجاح لطائرات مسيرة كانت تحاول أن تهاجم قاعدة فلامنجو البحرية في بورتسودان وأسقطت معظمها".
مسار الصراع في السودان بدأ يتصاعد بعدما كان الجيش السوداني قد أعلن أنه استعاد الخرطوم، وبدأ يفرض سيطرته ويقترب من حسم معركته مع قوات "الدعم السريع"، ولم يعد الصراع مقتصراً على الجيش و"الدعم السريع"، وقد اتضح أن هناك أطرافاً خارجية تحرك الصراعات وتتحكم في مساراته. وبالتالي، فإن الصراع في السودان مستمر ومتواصل ولم يقترب من الحسم بعد، وأن وقوده شعب السودان ومقدراته؛ وأطرافه الجيش و"الدعم السريع"؛ ومحركاته أطراف خارجية وهو نموذج يمتد لكثير من الصراعات الداخلية الدائرة في المنطقة العربية.