"سيدة الرياضيات الإيرانية"إلى العالم!
لم تكن الراحلة المميزة مريم ميرزاخاني مجرد عبقرية رياضيات، بل كانت معادلةً حيّة بين الإرادة والمعرفة، بين قلبٍ نابض وعقل لا يهدأ. من طهران التي لا تنكسر إلى العالم، كتبت اسمها في سجّل الخالدين، ورفعت علم بلدها في سماء العلم بكرامة واقتدار.
-
الراحلة مريم: "أحببت الرياضيات لأنها تشبه كتابة الرواية" (غرافيك: ندين بدر الدين)
في أرضِ مهد المعرفة وموطن الخيّام والخوارزمي منذ القدم، نشأت امرأةٌ من سلالة المعادلات، كتبت الرياضيات رقماً برقم، سطراً بسطرٍ، بحبٍّ وفكر وتفوّق.
هي ليست فقط معادلةً حلَّتها إيران، بل كانت معادلةً حلَّت هي من خلالها ألغاز الكون وأعادت للرياضيات وجهاً أنثويّاً يفيض دهشة.
لم تكن مريم أول فتاة إيرانية تنضمّ إلى الفريق الأولمبي الوطني للرياضيات، ومنه إلى أول ميدالية ذهبية تحصدها فتاة في تاريخ الأولمبياد الإيراني. لكنّها لم تكتفِ، بل حقّقت رقماً قياسياً جديداً: الفوز بالميدالية الذهبية عامين متتاليين.
كانت النتيجة الأعظم، حين سجّلت درجة الكمال: 42 من أصل 42، في أولمبياد كندا 1995. مشهد بدا وكأنه نبوءة بـ"فيما بعد"، حيث يعاد انبعاث اسم مريم في أروقة كبرى الجامعات والمعاهد والمجلات العلمية.
الرياضيات… البيت الأول!
إن كانت البيوت تُبنى من الحجارة، فبيت مريم شُيّد من أرقام ومعادلات. منذ صغرها، عشقت الكتب، وظلّت والدتها تحكي عنها أنها كانت تسهو أثناء التسوّق، إذ كانت مريم غارقة في كتاب بيديها!
اجتازت امتحانات "سامباد" المخصصة للنوابغ، لتحجز مكاناً لها في مدرسة موهوبين تُشرف عليها مؤسسة النخبة الإيرانية. وهناك، بدأت الرحلة الحقيقية مع العشق الأول: الرياضيات.
من جامعة "شريف" للتكنولوجيا في طهران، تخرّجت بدرجة امتياز، لكنّ السقف الإيراني لم يعد يتّسع لحجم مريم. فحملت حلمها وسافرت، حيث التحقت بأهمّ الجامعات "هارفرد"، وحصلت على الدكتوراه في 2004، بعد أن قدّمت واحدة من أكثر الرسائل تأثيراً في حقول الهندسة التفاضلية والهندسة الزائدية.
من قمم إيران إلى كليات ستانفورد
ما من جامعة في العالم إلا وكانت تحلم بطالبة كـمريم. لكنها كانت تعرف تماماً ما تريد: أن تكون في حيث يتقدّم البحث، لا حيث يتوقّف.
ففي عام 2008، عُيّنت أستاذةً للرياضيات في جامعة "ستانفورد" العريقة. هناك، لم تكن تُدرّس فقط، بل كانت تُبدع. عملت في مجالات بدت للبعض "معقّدة لدرجة الاستحالة"، مثل فضاءات "Teichmüller" ونظرية إرجوديك، وسطح ريمان والهندسة الزائدية.
بلغة بسيطة: مريم كانت تُعيد رسم الفضاءات المعرفية كما يشتهي الشعراء إعادة رسم العالم!
وضعَت معادلات جديدة لحساب المنحنيات "الجيوديسية" على سطوح غير اعتيادية، وكسرت الأساليب الكلاسيكية التي عجزت لعقود عن حلّ مسائل في تحديد حجم الأجسام غير المتناظرة. كانت تبتكر الرياضيات من داخلها، لا من الكتب.
ضحكة تحوّلت إلى ميدالية
حين كانت طالبة في الفريق الأولمبي الإيراني، سأل أحد الزملاء الطلاب: "وماذا بعد؟"، أجاب الجميع، إلّا مريم، قالت بابتسامة: "سنفوز بميدالية فيلدز يوماً ما". ضحك الجميع… لكن في عام 2014، توقّف الضحك.. لأنها حظيت بها بالفعل.
ميدالية "فيلدز"، أرفع جائزة في عالم الرياضيات، والتي تعادل "نوبل" في قيمتها. لم تكن فقط أول امرأة إيرانية، بل أول امرأة على الإطلاق تنال هذه الجائزة.
الجائزة مُنحت لها على مجمل مساهماتها في فهم تركيب فضاءات "مودولي" للأسطح، والتي فتحت أفقاً جديداً أمام علماء الرياضيات لفهم التراكيب الهندسية المعقّدة.
أنوثة لم تُخفها المعادلات
ما يميّز سيرة مريم أنها لم تنسلخ يوماً عن كونها امرأة. كانت تدرك أنّ حضورها العلمي يجب ألّا يطمس شخصيتها. . وقالت يوماً: "أحببت الرياضيات لأنها تشبه كتابة الرواية، عليك أن تبتكر الشخصيات، وأن تبني حبكة، وأن تتابع كلّ شيء إلى نهايته. فيها خيال أكثر مما يظن الناس".
بهذا الفهم، أعادت مريم تعريف الرياضيات: ليس كميدان جامد، بل كفنّ، كأدب، كقصة.
تكريمات… بعدد ما خلّفته من أثر
لم تتأخّر المؤسسات العلمية عن تقديرها فحازت على:
· جائزة Satter من الجمعية الأميركية للرياضيات (2013).
· ميدالية Fields (2014).
· جائزة Kelly.
· اختيرت من بين "أفضل 10 عقول علمية شابة" من قبل مجلة Popular Science (2005).
· انضمت إلى الأكاديمية الأميركية للعلوم، والأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم.
-
الراحلة مريم نموذج للتمّيز والاقتدار في إيران
وكان الأهم الراسخ، محبة مريم لبلادها وزيارتها الدورية لها رغم انشغالاتها التعليمية والعلمية، وكذلك إعلان 12 أيار/مايو (عيد ميلادها) يوماً عالمياً للمرأة في الرياضيات، بقرار من الاتحاد الدولي لجمعيات الرياضيات في إيران، وكأنّ العالم كلّه أراد أن يُخلّد اسمها على طريقة اللوح والطباشير.
وتُعرف مكتبة كلية العلوم الرياضية في جامعة شريف للصناعة أيضاً باسم مريم ميرزاخاني.
الوداع الأخير… والخلود الذي لا يُمحى
في عام 2014، وبينما كانت في أوج نبوغها، اكتشفت إصابتها بسرطان الثدي. خاضت معركتها بصمت، ثم عاد المرض في 2017 أكثر شراسة. ورحلَت يوم 14 تموز/يوليو من العام نفسه، تاركة وراءها طفلتها "أنية"، التي قالت عنها يوماً: "هي الحلم الذي لم أظن أني سأعيشه".
۲۲ اردیبهشت (۱۲ می)، سالروز تولد #مریم_میرزاخانی، از سوی اتحادیه بینالمللی انجمنهای ریاضی جهان به عنوان روز جهانی زن در ریاضیات نامگذاری شده است.
— Sharif University (@SharifSocial) May 12, 2022
کتابخانه دانشکده علوم ریاضی #دانشگاه_صنعتی_شریف نیز با نام مریم میرزاخانی شناخته میشود. pic.twitter.com/VY7hzPaaI5
حزنٌ عمّ الأوساط العلمية والإيرانية والعالمية، الرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني وصفها بأنها "نقطة تحوّل في تاريخ المرأة الإيرانية". وقالت عنها مجلة Nature إن وفاتها "خسارة علمية لن تُعوّض لعقود".
View this post on Instagram
إرث لا يُدفن
لم تُدفَن مريم ميرزاخاني في مقبرة، بل في وجدان كل فتاة حلمت أن تكون يوماً أكثر من "رقم" .. كانت أكبر من مجرد عالمة. كانت حكاية. كانت ملهمة.
-
توفيت مريم في مثل هذا الشهر من عام 2017
إيران رغم كلّ شيء، عرفت وجوهاً كثيرة، لكن قلّة منها يمكن وصفها بـ"النور الذي لن ينطفئ". مريم كانت أحدها.
اقرأ أيضاً: قرية إيرانية سبقت المدن وشكّلت نموذجاً عالمياً.. كيف؟
وإذا كانت المعادلات تُحلّ، فإنّ المعادلة التي صنعتها مريم لم تُحلّ بعد. إنها ببساطة: امرأة… تساوي معادلاتٍ من النبوغ.