رسالة موسكو

عندما تولى الرئيس بوتين الحكم في روسيا، لم ينسَ انهيار الاتحاد السوفياتي وفقدانه المناطق العازلة لدولته، كما لم ينسَ تنصّل دول حلف الأطلسي من تعهّداتها السابقة.

  • لم يعد أمام الغرب سوى قبول الوثيقة التي قدّمتها روسيا للولايات المتحدة
    لم يعد أمام الغرب سوى قبول الوثيقة التي قدّمتها روسيا للولايات المتحدة

ما إن انهار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 حتى انهار معه حلف وارسو؛ الثقل الموازن لحلف شمال الأطلسي في الدفاع عن حدود الاتحاد السوفياتي وأمنه المشترك، فسارع حلف شمال الأطلسي مباشرةً إلى إعادة تقييم استراتيجيته وطبيعته ومهامه، فأنهى أولاً انضمام ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية لتشكّل دولة واحدة، ثم إرسال تطميناته إلى موسكو بأنَّ قواته والأسلحة النووية لن تتمركز في الشرق، وأنه ملتزم بسياسة عدم التوسع خارج نطاقه الحالي، وهو ما أكّده وزير خارجية ألمانيا في ذلك الوقت هانس غينشر، كما أكّده غورباتشوف من خلال مقابلاته ومذكّراته حول التطمينات الغربية له.

لكنَّ حلف الأطلسي سرعان ما استغلَّ انهيار الاتحاد السوفياتي ليعمل على تفكيك يوغوسلافيا الاتحادية وضمّ كلٍّ من جمهورية التشكيك وهنغاريا إلى الحلف في العام 1999، لتلحق بهما 7 دول أخرى، هي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا، حتى نهاية العام 2004، وهي في معظمها دول غير مؤثرة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ما يدلّ على تخطيط حلف الأطلسي للتوسع والوصول إلى حدود روسيا الاتحادية، لشلّ أي احتمال مستقبلي لعودتها أو نهوضها مجدداً.

عندما تولى الرئيس بوتين الحكم في روسيا، لم ينسَ انهيار الاتحاد السوفياتي وفقدانه المناطق العازلة لدولته، كما لم ينسَ تنصّل دول حلف الأطلسي من تعهّداتها السابقة بعدم التمدّد والتوسّع نحو الشرق. وقد شهد الرئيس بوتين أكاذيب الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها بريطانيا، عندما ادّعى كذباً وجود أسلحة دمار شامل في العراق تمهيداً لاحتلاله وتدميره.

كما شهد تدخّل حلف الأطلسي في ليبيا وخروجه عن قرارات الأمم المتحدة، ليشنّ حرباً فيها أدت إلى إطاحة نظام الحكم وتغيره بالقوة، وما نجم عن ذلك من انهيار للدولة الليبية استمرَّ حتى يومنا هذا، كما شهد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الموقع مع إيران بعد تحقيق قبول دولي به، فضلاً عن الكثير من السلوكيات المدمرة، وخصوصاً انسحاب الولايات المتحدة المفاجئ من أفغانستان، وما ترتب على ذلك من تداعيات كارثية وأمنية وإنسانية عليها وعلى العالم. 

كانت جمهورية أوكرانيا قبل استقلالها في العام 1991 تشكّل إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق منذ العام 1921 ولغاية العام 1991، كما كانت قبل ذلك جزءاً من الإمبراطورية الروسية، وهي تضمّ أكثر من 25% من المواطنين الذين يتحدرون من أصول روسيّة، ومعظم سكانها يتحدَّث اللغة الروسية.

وفي العام 2009، أبلغ حلف الأطلسي كلاً من أوكرانيا وجورجيا بإمكانية انضمامهما إلى الحلف، آخذين بعين الاعتبار أنَّ أوكرانيا هي أفضل ساحة لمواجهة الروس على حدودها. وقد اعتبر بوتين منذ ذلك الوقت أنَّ ضمّها إلى الحلف هو خط أحمر لا يمكن السماح به في أيِّ حال من الأحوال، ومهما كان الثمن باهظاً، فهو أمر مرفوض بالمطلق، لما له من آثار مدمرة عليها، فروسيا اليوم غير روسيا 2004، والخطأ الذي جرى وقتها نتيجة ضعفها أدّى إلى ضمّ 3 دول في البلطيق إلى الحلف، وهو أمر لا يجوز أن يتكرّر.

هناك تياران وُجدا في السّاحة الأوكرانية منذ استقلالها، وهما متناقضان في فكرهما، أحدهما يؤيد استمرار العلاقة مع روسيا الاتحادية وتطويرها، والآخر يجد أنَّ مستقبل أوكرانيا لا يجوز أن يكون إلا بالتحاقها بالغرب. ونتيجة لهذا الاختلاف، ومع رفض الرئيس الأوكراني في ذلك الوقت (فيكتور يانغوفيتش) التوقيع على اتفاقية شراكة تمهّد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مفضلاً السير في علاقات مميزة مع روسيا الاتحادية، حدث صراع هائل بين هذين التيارين، بلغ ذروته أواخر العام 2013، حين خرج التيار المؤيد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بتظاهرات واحتجاجات واسعة في الشارع، بتحريض ودعم وتأييد من بعض دول الحلف، واستمر حتى شهر شباط/فبراير 2014، حين تمت إطاحة الرئيس الأوكراني وسيطرة المحتجين المدعومين من الحلف على السلطة، وهو ما اعتبرت موسكو أنّه تخطيط وتدبير مسبق من دول الحلف للاستيلاء على أوكرانيا وتهديد روسيا على حدودها، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات عاجلة تمثّلت بجانبين؛ الأوّل هو دعم الجماعات الانفصالية في أوكرانيا، المؤيدة لروسيا، للمتواجدين في منطقة دونباس (دوناتسك ولوغانسك)، والذين أعلنوا انفصالهما عن أوكرانيا، والآخر ضم جزيرة القرم وإعلانها جزءاً من روسيا الاتحادية.

لم تستطع دول حلف الأطلسي أن تغيّر هذا الواقع الجديد، مكتفية بفرض عقوبات إضافية على موسكو واستبعادها من مجموعة الثمانية الكبار، في الوقت الذي عززت دعمها لأوكرانيا بالسلاح، فضلاً عن الدعم الاقتصادي والدبلوماسي ضدّ الانفصاليين.

جرت عدة محاولات لإنهاء الصراع العسكري بين الانفصاليين والحكومة الأوكرانية الجديدة، من خلال توقيع اتفاقية مينسك الأولى والثانية لوقف إطلاق النار بينهما 2014 - 2015، وما لبثت أن انهارت في آذار/مارس 2021 أمام التدخلات التي عمل عليها بعض دول الحلف في مواجهة موسكو، ما دفع الأخيرة إلى الإعلان أنها لن تقف مكتوفة الأيدي في ما لو فكّرت أوكرانيا، ومن خلفها حلف الأطلسي، في الهجوم على مناطق دونباس الانفصالية وارتكاب المجازر بحقّ أهلها، مهددةً بأنَّ ذلك سيكون بداية النهاية لأوكرانيا.

وقد ردّت دول الحلف بالتوعّد بعواقب وخيمة في حال أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، وسارعت الولايات المتحدة وبعض دول الحلف إلى إرسال قطع بحرية عسكرية إلى البحر الأسود، لاستعراض وجودها في المنطقة، وإفهام روسيا بقدرتها على التدخّل لردعها، وقامت بتزويد أوكرانيا بأسلحة قادمة من أفغانستان.

وبما أنّ انضمام أوكرانيا إلى الحلف هو أمر غير مسموح به عند روسيا، فقد ردَّ الرئيس بوتين خلال رسالته إلى فرنسا بأن تصرفات دول الحلف غير مسموح بها، ولن يقبل بضمها إلى الحلف، محذراً في الوقت ذاته من ضخّ الأسلحة لأوكرانيا. 

يُذكر أنّ الرئيس بوتين حذّر سابقاً كلاً من فنلندا والسويد المجاورتين لروسيا من الانضمام إلى الحلف، وهدّدهما في العام 2013 باستخدام الهجوم النووي في حال تفكيرهما في هذا الأمر. وما ينطبق عليهما ينطبق على أوكرانيا، فروسيا اليوم ليست روسيا 1991، وليست روسيا 2004، بعد أن وصلت إلى آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وسواحل البحر الأحمر والمتوسط، ولن تسمح بتوسع الناتو ونشر بنيته التحتية العسكرية قرب حدودها، ولو قامت بغزو أوكرانيا.

التهديدات تتفاقم، والحشود العسكرية أصبحت على الحدود، والوضع متأزم للغاية، والمواجهة قد تصبح حتمية، ودول الحلف لن تكون قادرة على الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، الأمر الّذي سيشكّل وضعاً كارثياً في المنطقة قد تتأثر به جميع الأطراف الفاعلة في هذه الأزمة، وتقلب التوازن الحالي المفروض على العالم لتغير النظام العالمي ضمن تبدلات جديدة تحدث تغيراً في المفاهيم القائمة؟

حين قرّر الرئيس بوتين تقديم وثيقته للولايات المتحدة الأميركية المعنيّة مباشرة بهذا الصراع، متجاوزاً دول حلف الأطلسي، فإنّه قدَّمها لتجنّب غزو أوكرانيا، ليمنح الفرصة لتسوية التوسع القائم من قبل الناتو ووقفه، فالجميع يعلم أنّ روسيا، في حال أرادت الاستيلاء على أوكرانيا، ستفعل ذلك في أقلّ من 60 ساعة منذ العام 2014.

وتتضمَّن الوثيقة مجموعة بنود، أهمها رفض إقامة قواعد عسكرية قرب أراضي روسيا في أوكرانيا، وإعادة البنى التحتية لحلف الناتو إلى حدود 1997، وعدم نشر الأسلحة النووية والصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى خارج أراضي روسيا والولايات المتحدة، وذلك كنوع من الضمانات الأمنية لروسيا. وقد ردَّت الولايات المتحدة بأنها مستعدّة لمناقشة هذه الوثيقة بعد إشراك حلفائها في الناتو في المحادثات.

تمثّل هذه المقترحات الواردة في الوثيقة الروسية مخرجاً منطقياً من الوضع الخطر الَّذي تشكل في المنطقة بسبب توسعات حلف الأطلسي فيها، ويجب أن تكون أساساً يعتمد عليها الآن ومستقبلاً، فالرئيس بوتين، وبخبرته العميقة تجاه خصومه، لن يثق بالغرب مجدداً. ولذلك، لن يقبل بأيِّ ضمانات أو تعهّدات غير موثقة ومسجّلة وفق قواعد القانون الدولي وأحكامه المعروفة، فكم من وثائق ومعاهدات عُقدت وقام الغرب بخرقها؟ 

لم يعد أمام الغرب سوى قبول الوثيقة التي قدّمتها روسيا للولايات المتحدة، وهي مطالب عادلة تم الاتفاق سابقاً على معظمها، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وقيام حلفي الناتو ووارسو، وصولاً إلى مرحلة تفكك الاتحاد السوفياتي، فإن لم يوافق، فالغزو الروسي واقع على أوكرانيا، وفي القريب العاجل، وإن وقع، فإن نتائجه ستولد تغيرات كبيرة في السلوك الدولي، وسيخلق تحالفات جديدة بين الدول.

ويدلّ على ذلك ما شهدناه منذ فترة قصيرة من تحالف جديد بين روسيا والصين (التي تسعى لضمّ تايوان ولو بالقوة)، ليتوسّع ويضمّ لاحقاً أنصارهما الآخرين التقليديين المنتشرين في العالم، ما يمهّد لخلق توازن دولي من نوع جديد، فالصين دعمت الوثيقة الروسية، وبقوة، في مواجهة توسعات الناتو، واتفقت معها على إنشاء آلية ماليّة مستقلّة خارج منظومة "سويفت"، كما اتفقتا على زيادة التعاون وتنسيق المواقف، وعلى التعاون العسكري والدفاع وزيادة الاستثمار والتبادل التجاري وتشغيل خط قوة سيبيريا، لتصدير الغاز إلى الصين، وبناء محطة فضائية مشتركة على سطح القمر.

وبذلك، يكون هذا التحالف الرسالة الأقوى الموجّهة إلى الغرب، ومفادها أنّ العملاقين، روسيا والصين، لن يقفا مكتوفي الأيدي تجاه سياستة التوسّعية وممارسته المستمرة لسياسة الضغط والتصعيد تجاه الدول الأخرى وتهديده للأمن والسلم الدوليين.