عام على رحيلك... لماذا ما زلنا عاجزين عن رثائك؟
البطل المجسّد يمثل تحديات الوجود الواقعي، والبطل الروحي يمثل التحديات الداخلية من الخوف، وعندما كنت أنت الإثنين معاً، تصبح مهمة رثائك مستحيلة!
-
عشتَ واستشهدتَ كظاهرة بشرية مركّبة، يصعب رثاؤها ويستحيل وداعها.
عندما أعلن نبأ استشهادك رسمياً، أنكره كُثر!
إنكار تسبّبت يا سيد في جزء منه، وتسببنا نحن في جزئه الآخر؛ فهنالك وعي دفين بأنّ الظواهر التي تشبهك لا تموت، وغيابها هو خرق لناموس الكون.
إننا، إلى اليوم، ما زلنا نبحث في كل الوسائل المتاحة لتأكيد إنكارنا؛ نستخدم الذكاء الاصطناعي على صورك، لإنتاج كلمة ننتظرها منك، ونصيحة، وتوجيه. نتعلق بخيط صورة عابرة لرجل يشبهك، واقفاً متبصراً من شرفة، أو ماشياً في ذكرى الأربعين، أو حتى صورة لتمثال ثلاثي الأبعاد يجسّدك.
إننا ببساطة نبحث عن أسطورة تبعثك من جديد !
كنا نحن وأنت شركاء في صناعة هذا الوعي؛ وكان "عصر الهزائم" لا يحتمل توقعات ظهورك، وعندما حوّلتَه إلى "عصر الانتصارات"، جفّت قدرتنا على احتمال فكرة غيابك.
نحن أيضاً مسؤولون عن هذا الإنكار؛ فقبلك كان الجو يكتسي بالشواش، ولا ندرك معه إمكانات الخطوة الأولى جيداً، تمسّكنا بك تمسك عود يابس وسط الصحراء بقطرة ماء. لا يعيش البشر من دون إطار للتوجه وموضوع للإخلاص، وكنت أنت تكثيفاً لكل ذلك؛ لذلك كان فقدانك بمثابة فقدان الإطار والموضوع، ولذلك أنكرناه !
في الثالث والعشرين من شباط، كان الشارع الواسع في وداعك، مثل الجرح المفتوح. راهنّا على الألم في فكّ قيود الإنكار، وفشلنا مجدداً. لقد أنكر كُثُر وجودك في النعش الطاهر، مع أنّهم هلعوا لتقبيله أو لمسه أو الاقتراب منه. لقد انتظروا خروجك من مكان آخر لدحض الرواية كلّها، من شرفة، من خطاب مباشر، من خطاب يأتي من السماء، من أي مكان !
ربما كانت استعادة كلماتك لتؤبّن نفسك جزءً من حيلتنا الذهنية لتأكيد حالة الإنكار !
ومع أننا صدّقنا الآن، ما زلنا عاجزين عن رثائك أيضاً؛ كما البطل بألف وجه، كلها حسنة، وضعتنا في ورطة الرثاء المستحيل، فالبطل المجسّد يمثل تحديات الوجود الواقعي، والبطل الروحي يمثل التحديات الداخلية من الخوف، وعندما كنت أنت الإثنين معاً، تصبح مهمة رثائك مستحيلة، فليس منّا من يحتمل فكرة "موت البطل"، بعد أن نستمدّ من وجوده، رغباتنا الخاصة بالخلود !
إن البطل في التاريخ هو الرمز للمادة الحية التي تعيش في ذواتنا، نكتشفها معه، ونستخرجها، ونتحول معها إلى فعل قوة ، ومواجهة.. لقد استخرجتَ يا سيد ما فينا من قدرة كامنة ، كانت مُذوّبة، أو راكدة ، لذلك كنا نرى أن موتك الخاص هو موتنا ، ولذلك تُهنا في الرثاء بين أن نرثيك أو نرثي أنفسنا...
ليس من الغريب في أغوار النفس البشرية، أن تلتقي الأضداد، القوة ورهافة الإحساس، الطموح والزهد، الغضب والهدوء ... لكن جمعك لها كان غريبا ، وكأنك مع كل قوتك ، فإن حديقة ينبض فيها النّدى كفيلة بإفاضة مشاعرك...
لقد حيرتنا في كل ذلك ، وجعلتنا نتنقل من حالة إلى أخرى ؛ ماذا تريدنا أن نلحق بالضبط ؟ قوتك وعزتك وغضبك أم هدوءك وزهدك، أم التركيبة الغرائبية منها جميعاً؟ إن ذلك كفيل كله بإرباك لغة الرثاء، التي لا تجيد إحاطة هذه الأضداد كلها، وبعمقها هذا...
لماذا ارتبكت أقلام الشعراء والأدباء في رثائك؟ لماذا خسروا الكثير من قدراتهم في استدعاء الكلمات؟ لقد كانت الكلمات تأتيك صاغرة، والأفكار تتدفق إلى رأسك من دون أن تتزاحم، كأنها في طابور عسكري صارم.. لم تنقطع عنك ولا مرة مرادفات الكلمات، وكأن الفكرة نفسها تعبر كل الطرق معاً، مرة واحدة ..
لقد كانت المهمة الأكبر على كاهل الشخصيات العظيمة في التاريخ، هي ما أسماه فرانز فانون "تثقيف المسحوقين" .. كذبت قيادات كثيرة على الناس، واعتبرت أنهم عاجزون عن الوصول إلى ما يدور في رأس القائد ، وكذبت قيادات أخرى باستخدام الشعارات الكبرى والمصطلحات الصعبة، التي لم يفهموها هم أنفسهم... غريب أمرك يا سيد حسن في جدلية الأفكار الكبرى المحمولة على ريح البساطة والوضوح لكل الناس ...
من أين يأتي كُتّاب الرثاء بكل ذلك؟
عشتَ واستشهدتَ كظاهرة بشرية مركّبة، يصعب رثاؤها ويستحيل وداعها..
وداعا مرة أخرى، وألف مرّة!
دع عنك يا سيد أعباءنا المتراكمة، ودع عنك امتحان الرثاء الذي سنفشل فيه دائماً أمام كلماتك الخالدة. إننا في عالم مليء بأنواع الطاقة، التي لا تفنى، ولقد تركت خلفك طاقة كامنة ، تدفع لنا دواليب المستقبل... إننا ببساطة نجني الثمار الكثيرة لتحديك أنت للتاريخ، ولترويضه بما يكفي أن نجرّب أكثر بعدك، ومعك!