فضاء الدولة الدرزية في ظل الفوضى الإقليمية المتصاعدة
يصعب تصنيف الحالة السورية الدرزية الراهنة ضمن الحالة في الجليل الفلسطيني، والتي طال عليها أمد الارتهان الدرزي هناك، فما زال في جعبة دروز سوريا خيار الانصهار في الكيان السوري.
-
يصل عدد دروز العالم أكثر من مليون ونصف مليون درزي.
كشف المستشرق الإسرائيلي يعقوب شمعوني، وهو أيضاً مسؤول سياسي بارز في فترة تشكّل الكيان الإسرائيلي، أن الهدف من تجنيد الأقليات، وتحديداً الدروز، في "جيش" الاحتلال "دق إسـفين في قلب الوحدة العربيّة، واستخدام الدروز كسكين حاد في صلب الوحدة العربيّة"، وهو ما جعله يقنع بن غوريون بالإبقاء على بدو النقب في مناطقهم لضمان بقاء منطقة النقب ضمن حدود الكيان الإسرائيلي، بل ورعى بن غوريون وقتها ميثاق "حلف الدم" بين الجنود اليهود والدروز، عندما وقّع عليه مع 16 قائداً درزياً.
فهي إذاً منهجية إسرائيلية عميقة تتصل بالأبعاد الاستشراقية لدى رجال الفكر الإسرائيلي، الذين دمجوا في عملهم بين الروح الاستشراقية في تطويع الدراسات والأبحاث المتعلقة بالشأن العربي، وبين المصالح الأمنية والسياسية لـ"دولة" الكيان الإسرائيلي، وقد بدأ اللعب على وتر الأقليات، ولا سيما المكوّن الدرزي الفلسطيني مبكراً، عندما نجح الاحتلال في فصل هذا المكوّن واعتباره طائفة منفصلة في شتى مناحيها الدينية والاجتماعية، فأقام لهم بنية خاصة في المدارس والمحاكم الشرعية، على الرغم من كونه مذهباً إسلامياً مهما قيل فيه على المستويين العقائدي والفقهي من أهل الشريعة والفكر الإسلامي، خصوصاً مع وجود حالات ممانعة بينهم ضد هذا العزل الإسرائيلي عن المحيط الفلسطيني.
انتقل النجاح الإسرائيلي المبكر مع المكوّن الفلسطيني الدرزي، إلى بدو النقب، وهم عرب فلسطينيون أيضاً كحال الدروز، ولكنهم على الصعيدين الديني والمذهبي كحال الغالبية الفلسطينية السنّية من دون أدنى خصوصية، ولكنهم ميّزوا أنفسهم على الصعيد الاجتماعي تاريخياً، فوجد الاحتلال في ذلك مدخلاً لعزلهم عن المحيط الفلسطيني، وكذلك الحال مع الشركس والمسيحيين وحتى السامريين، عندما أنشأ بشكل مبكر وحدة الأقليات في "جيش" الاحتلال ووزارة الأقليات في حكومة الاحتلال قبل ضمها إلى وزارة الخارجية.
كان النجاح الإسرائيلي في استيعاب الدروز في فلسطين، هو الأهم والأوضح، ليس بحسب نسبة الشريحة السكانية فهي نسبة ضئيلة لا تتعدى 1.5 من مجموع سكان الكيان الكلي، ولكن بسبب الاندفاع الواسع للتجنيد في "جيش" الاحتلال ومصلحة السجون، إذ بلغت نسبة التجنيد نحو 85% من عامة الشباب الدرزي، حتى وصلت نسبة الجنود الدروز في المؤسسات الأمنية والعسكرية نحو 5%، والأخطر أن نسبتهم في مصلحة السجون كسجانين تجاوزت 15% من المجموع الكلي للعاملين في مصلحة السجون الإسرائيلية، واشتهر أغلبهم بالوحشية ضد الأسرى الفلسطينيين ما ورّث جرحاً يصعب أن يزول.
في وقت فشل أهل الممانعة داخل المكوّن الدرزي الجليلي، في استقطاب أي فئة اجتماعية أو ثقافية داخل الطائفة، وهو ما جعل المؤرخ الدرزي الراحل قيس فرّو، وهو المعارض البارز لتوجهات المشايخ من بني معروف المسيطرين على المشهد الدرزي، يصدر دراسة أشبه بالنزع الأخير، ويوصي المقربين منه بنشرها فقط بعد وفاته، والتي حملت عنوان "دروز في زمن الغفلة، من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية"، على الرغم أن الغالبية الدرزية من أهل الجولان السوري المحتل منذ عام 1967، اتخذت موقفاً قومياً وسياسياً مختلفاً بشكل جذري عن دروز فلسطين، عندما رفضوا قبول الهوية الإسرائيلية بعد ضم الجولان، وبطبيعة الحال حافظوا على عروبتهم ورفضهم التام للاحتلال.
حمل موقف دروز الجولان التاريخي في رفض الاحتلال الإسرائيلي طوال العقود الماضية، علامة فارقة مع التجربة السابقة والنجاح الإسرائيلي في استيعاب دروز الجليل، وهو ما خلق انطباعاً إيجابياً نحو عامة دروز سوريا ولبنان، وقد برزت فيهم قامات وطنية مثل الشهيد سمير القنطار، حتى جاءت التطورات الأخيرة بعد قيام الحكم الجديد في سوريا، والدخول الإسرائيلي المباشر والصريح على خط هذا التطور في الإعلان الرسمي عن حماية دروز سوريا في وجه بسط السلطة الجديدة سيطرتها على البلد، خصوصاً مع توجهاتها السلفية المتشددة.
سبق للوزير الإسرائيلي يغآل ألون أن روّج لفكرة الدولة الدرزية داخل سوريا، وتحديداً بعد حرب 1967، وكتب لرئيس الحكومة ليفي أشكول قائلاً "من حيث تفرُّد الطائفة الدرزية، وكذلك من حيث أعدادهم والظروف الجغرافية لمنطقة سكنهم، من المحتمل في رأيي، أن يتمردوا على دمشق من أجل إقامة دولة ذات سيادة لهم، وفي هذا السياق، أقترح أن تزوّدهم إسرائيل بالإرشاد السياسي والمساعدة العسكرية، وأفترض أن مثل هذه الدولة، إذا أُقيمت، ستعترف بالسيطرة الإسرائيلية الدائمة على مرتفعات الجولان، وجودنا في مرتفعات الجولان على بعد ليس بكبير من جبل الدروز يمنحنا فرصة لمساعدتهم على تحقيق طموحاتهم"، ولكنّ هذا التوجّه فشل، رغم تأييده من قبل أشكول أمام استعصاء الزعامات الدرزية السورية.
يصل عدد دروز العالم أكثر من مليون ونصف مليون درزي، منهم نحو مليون نسمة في سوريا، ويسكنون في الجنوب والشرق السوريين، من دون تواصل جغرافي إلا ما يتعلق بمدينة السويداء أو جبل الدروز حيث يسكن نحو 400 ألف درزي، وهناك تجمعات درزية متباعدة خاصة في الجولان السوري المحتل، وتجمع دروز فلسطين في الجليل لا يتصل جغرافياً مع الجولان، وكذلك دروز لبنان في منطقة الجبل، فهم موجودون في مناطق عدة متباعدة، ما يمنع قيام دولة واحدة حتى داخل سوريا.
فشل كرد هضبة كردستان في إقامة دولة كردية، رغم وحدة اللغة والعادات والتقاليد والتواصل الجغرافي، وإن توزعت الهضبة بين أربع دول إحداها سوريا، إضافة إلى تركيا والعراق وإيران، ما يعني أن أحلام الكيان الإسرائيلي التي فشلت عام 67 رغم الهزيمة العربية المدوية، لا يمكن أن تنجح في الواقع العربي الراهن رغم فوضى "الربيع العربي"، وما أعقبها من التشظي الإقليمي بعد "طوفان الأقصى"، ودخول الكيان الإسرائيلي الحرب على جبهات متعددة في ظل دعم أميركي وغربي غير مسبوق، نتج عنها سقوط نظام الأسد وقيام نظام مقرب من تركيا.
يصعب تصنيف الحالة السورية الدرزية الراهنة ضمن الحالة في الجليل الفلسطيني، والتي طال عليها أمد الارتهان الدرزي هناك، فما زال في جعبة دروز سوريا خيار الانصهار في الكيان السوري والتأثير داخل بنية النظام الجديد، وهو نظام يسعى حالياً كأولوية للتصالح مع الغرب على حساب شعاراته الدينية التي قاتل النظام السابق وفقها، بل هو يداهن الكيان الإسرائيلي ويتحمّل احتلاله التوسعي داخل سوريا.
وليس ثمة خطة عند نظام سوريا الجديد، على ما يظهر حتى الآن، في التصدي لهذا الاحتلال، مع احتمال حدوث تغيرات دراماتيكية في حال مضى الإسرائيلي في تعميق توسعه واقترب أكثر من العاصمة دمشق، حيث لا يبقى عندها أمام حكام دمشق الجدد مفر من المواجهة ولو كان في سياق "مكره أخاك لا بطل" فما زالت بنية هذا النظام خارج الصقل الرسمي النهائي، ما يجعل توزّعه الفصائلي منفتحاً على فضاءات تضيق وتتسع، وإن بشكل نسبي، لتبقى المراهنات حبلى بالاحتمالات.