في ذكرى رحيل أمينه العام.. هل تغيّر موقف حزب الله من فلسطين!

وصية الشهيد السعيد سماحة السيد حسن نصر الله بدعم القضية الفلسطينية وإسنادها ما زالت قائمة، وإن اختلفت الطرق والوسائل، إلا أن جوهر هذا الدعم وهذه المساندة ما زال على حاله.

  •  موقف حزب الله من فلسطين وشعبها لم يتغيّر.
    موقف حزب الله من فلسطين وشعبها لم يتغيّر.

لا يمكن لأحد، صديقاً كان أم عدوّاً، أن يُنكر الدور الكبير والمؤثّر الذي لعبه حزب الله في نصرة الشعب الفلسطيني المظلوم ودعمه، ولا يملك أحد، قريباً كان أم بعيداً، حق التقليل أو التشكيك في حجم ذلك الدعم بشقّيه المادي والمعنوي، أو الادّعاء بأنه كان يسعى إلى تحقيق أهداف سياسية تصب في مصلحة الحزب، أو خدمة أجندات طائفيّة عابرة للحدود، كما كان يُطلق عليها البعض.

منذ تأسيس الحزب اللبناني في عام 1982، ظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن موقفه من فلسطين هو موقف عقائدي ثابت، لا يخضع لأي مصالح، ولا ينبع من أي أجندات، بل رأى شأنه شأن باقي أطراف محور المقاومة والممانعة في المنطقة أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، ولكل الأحرار في العالم، وأن دعم هذه القضية والوقوف إلى جانبها، واستنفار كل الطاقات البشرية والمادية والمعنوية لنصرتها هو تصرف أخلاقي وديني وإنساني لا مجال للتهرّب منه، أو التنكّر له.

هذا الموقف أشار إليه الأمين العام المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي في حديثه عن الشهيد عباس الموسوي، أول أمين عام للحزب، والذي اغتالته الطائرات الإسرائيلية في بلدة جبشيت الجنوبية في عام 1992، إذ أشار الشقاقي إلى مكانة فلسطين لدى السيد الموسوي بقوله:" ما رأيته يومًا إلا يحمل همّ فلسطين وهمّ الانتفاضة وهمّ الأطفال والفقراء، وهمّ الوحدة والجهاد والعمل، تستغرقه أدق التفاصيل في فلسطين كأنه ذاهب إليها، واصفاً إيّاه بـ "البطل الاستثنائي في الزّمن الاستثنائي". 

بعد تولّي سماحة السيد حسن نصر الله، رضوان الله عليه، الأمانة العامّة للحزب خلفاً للشهيد الموسوي، ظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن موقف دعم فلسطين والوقوف إلى جانبها قد ازداد صلابة، بل توسّعت آفاقه لتصل إلى تعزيز أطر التعاون والتواصل والدعم المُطلق لفصائل المقاومة الفلسطينية كما لم يحدث من قبل، وباتت علاقة حزب الله بقيادة الشهيد نصر الله مع الفصائل الفلسطينية كافة أقوى وأشمل وأوسع وأكثر صلابة من أي فترة ماضية، وظهر جليّاً أثر دعم الحزب للمقاومة في فلسطين ومساندتها في كثير من التفاصيل التي بات يعرفها الجميع، والتي تُوّجت بتدشينه جبهة الإسناد لمعركة "طوفان الأقصى" التي دفع خلالها ثمناً باهظاً كان في مقدمته استشهاد أمينه العام، ومعظم قيادته العسكرية والسياسية.

في معظم إطلالات السيد الشهيد حسن نصر الله، رضوان الله عليه، كانت فلسطين حاضرة، بل كانت على رأس قائمة المواضيع التي يتناولها بالشرح والتحليل المنطقي والعقلاني. وعلى الرغم من تعدّد اهتماماته وانشغالاته التي كانت تمنعه في كثير من الأحيان من الظهور الإعلامي، فإنه كان يتجاوز كل تلك الاهتمامات ويخرج على الجماهير عندما يتعلّق الأمر بفلسطين وبشعبها المقاوم والمكافح، هذا الشعب الذي كان يحظى بمكانة خاصة واستثنائية في قلب سماحة السيد، رحمه الله، عبّرت عنها في كثير من الأحيان كلماته الرقيقة والجميلة، وفي أحيان أخرى، انفعالاته وعباراته الغاضبة عندما يتعلّق الأمر بالعدوان والإجرام الذي يتعرّض له هذا الشعب الصابر والمحتسب.  

 كانت دوافع السيد الشهيد، رضوان الله عليه، ومعه كل أنصار حزب الله لنصرة القضية الفلسطينية تنبع من ثلاثة مبادئ أساسية، أولها مبدأ أخلاقي-ديني، إذ عدّ سماحته الدفاع عن فلسطين واجباً شرعياً وأخلاقياً لا مجال لإدارة الظهر له، أو تنكّب طريقه، وثانيها المبدأ الإنساني، وهو المبدأ الذي يرفض الظلم ويدافع عن كرامة الإنسان بغض النظر عن لونه وعرقه وديانته، وثالثها مبدأ الفطرة السليمة التي خُلق عليها كل البشر، والتي ترى في مقاومة الاحتلال والاستعمار استجابة طبيعية للضمير البشري الفطري السليم. 

في أحد خطاباته في ذكرى عاشوراء يقول السيد نصر الله رضوان الله عليه: "هذه هي جبهتنا الشريفة الإنسانية الأخلاقية التي ‏نتضامن فيها، وندعم فيها ونساند فيها ونُدافع فيها عن المظلومين وعن المعذبين وعن المُعتدى عليهم ‏في غزة وفي فلسطين المحتلة، وإن جوهر كربلاء وعاشوراء أن ننتصر للمظلوم ولصاحب الحق المُعتدى على حقه، ‏وهنا نحن ننتصر لفلسطين، لقطاع غزّة المظلوم، للضفة الغربية ولشعبنا المُعتدى عليه في لبنان".

هذا الموقف الثابت لسماحة الشهيد نصر الله استمر على حاله، رغم كل ما مُورس عليه وعلى حزبه من ضغوطات، ورغم كل المغريات التي عُرضت عليه من أجل الانفكاك عن مساندة غزة وفلسطين، وبقي يردّد عبارته المشهورة منذ انطلاق معركة "طوفان الأقصى" وحتى قبل أيام من استشهاده، والتي كان يؤكد فيها تلازم وتلاحم الجبهتين الفلسطينية واللبنانية حتى وقف العدوان ورفع الحصار عن قطاع غزة، حيث قال في آخر خطاباته: "إن المقاومة في لبنان لن تتوقف عن مساندة غزة، رغم كل التضحيات التي قدمتها".

بعد استشهاد السيد حسن نصر الله، رضوان الله عليه، في عملية اغتيال صهيونية غادرة، وإلى جانبه ثلّة من المسؤولين البارزين الآخرين، أخذ البعض يشكّك في استمرار موقف الحزب من غزة، لا سيّما بعد الخسارات الكبيرة التي تلقّاها الحزب، وحملة الضغط الداخلية والخارجية التي تعرّض لها لتغيير موقفه، والذهاب في اتجاه فك الشراكة مع جبهة غزة، وهو الأمر الذي فشلت فيه "إسرائيل" وشركاؤها خلال أكثر من عام كامل.

في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تم التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، وهو الأمر الذي شكّل مفاجأة مدوّية للكثيرين سواء من أنصار الحزب أو من أعدائه، إلى جانب ما ساد مواطني قطاع غزة من إحباط ويأس نتيجة اعتقادهم بأنهم تُركوا وحيدين في مواجهة العدو الصهيوني، والذي أصبح بإمكانه توجيه كل قواته وإمكانياته العسكرية نحو حسم المعركة في القطاع الصغير والمُحاصر، بعد أن كانت جبهة لبنان تستنزف أكثر من ثلث تلك الإمكانيات، حتى إن بعض المعلّقين عبر وسائل التواصل الاجتماعي وصفوا الأمر بأنه تجاوز لوصية السيد نصر الله، وخيانة لها.

نصيب الأسد من الانتقادات طالت شخص الأمين العام الحالي لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، والذي اعتقد البعض أنه غير مناسب لقيادة حزب بهذا الحجم وبهذه القوة، خصوصاً في ظل التحديّات الكبرى التي يواجهها على الصعيدين الداخلي والخارجي، وأن قرار فصل الجبهات كان نتيجة الضربات التي تلقّاها الحزب، والتي جعلته يعيد التفكير من جديد في تموضعاته وتحالفاته على مستوى المنطقة والإقليم. 

حتى هذه اللحظة، أي بعد أكثر من عشرة أشهر على توقّف جبهة الإسناد اللبنانية، لم يتضّح بعد الأسباب الحقيقية التي دفعت الحزب إلى اتخاذ هذا القرار، رغم أن الكثير من التحليلات والتأويلات قد تناولت هذا الموضوع، فإن المعني الأول بالموضوع وهو حزب الله لم يذكر صراحة تلك الأسباب، ولم يُشر إليها بالتفصيل كما كان يرغب أنصاره ومحبّوه.

على كل حال، وبعيداً من تلك الأسباب والحيثيات التي أحاطت بها، ما نعرفه أن قيادة حزب الله الحالية، والتي كان لها باع طويل في مقارعة الاحتلال، ودعم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة عبر سنوات طوال، ما زالت تحمل المبادئ نفسها التي حملها من سبقها من القادة السابقين، ولم تزل على الأسس نفسها التي وضعها السيدان الشهيدان الموسوي ونصرالله رضوان الله عليهما ورفاقهما الشهداء، وهي ليست مُلزمة أو مضطرة للدفاع عن موقفها الذي اتخذته لأسباب هي تعرفها أكثر من غيرها، ويعرفها أيضاً المقربون من الحزب وحلفاؤه في الإقليم.

ما نعرفه أن حزب الله بقيادة أمينه العام الشيخ نعيم قاسم لم يتخلّ عن وصية الشهيد نصر الله بمساندة غزة وفلسطين، وإنما هناك اختلاف في الوسائل والأساليب فقط حسب ما تقتضيه المصلحة العامة، ونظراً للتعقيدات الكثيرة التي تمر بها المنطقة عموماً، ولبنان والمقاومة وبيئتها الحاضنة خصوصاً. 

هذا الأمر أكده الشيخ قاسم في الخامس عشر من آب/أغسطس الماضي، حيث أكد أن فلسطين ستبقى البوصلة، وكل ما تقوم به "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية لن يثني الشعب الفلسطيني عن الاستمرار في المقاومة، وأن فلسطين ستنتصر رغم كل هذه التضحيات لأنهم أصحاب الأرض والقضية، وأكد دعمه للحقوق الفلسطينية في وجه الطاغوت الأميركي والإسرائيلي ومن يسير على نهجهما. 

 نحن على ثقة تامة بأن موقف حزب الله من فلسطين وشعبها لم يتغيّر، وأن ما حدث من وقف لجبهة الإسناد كان عبارة عن تحرّك تكتيكي مؤقت، يراعي الكثير من المستجدّات، ويأخذ بعين الاعتبار العديد من المتغيّرات الداخلية والإقليمية.

ختاماً، يمكننا القول إن وصية الشهيد السعيد سماحة السيد حسن نصر الله بدعم القضية الفلسطينية وإسنادها ما زالت قائمة، وإن اختلفت الطرق والوسائل، إلا أن جوهر هذا الدعم وهذه المساندة ما زال على حاله، لم يتبدّل ولم يتغيّر، وسيستمر إلى أن يهزم المشروع الصهيو-أميركي في المنطقة ويغادر إلى غير رجعة، إذ أن عهود الرجال لا تسقط بالتقادم، ووعود المخلصين لا تذهب أدراج الرياح، فما عُمّد بالدم لا يمحوه تدافع الأيام والسنين، وما كُتب بالأشلاء لا تقلّل من شأنه أراجيف المهزومين والمثبّطين.