كيف صنعت استراتيجية الحكمة "تل أبيب" الجديدة.. قراءة في تحوّلات القوة والردع
"تل أبيب" الجديدة، التي بدت ملامحها تتشكل ليست نتيجة لضربات عسكرية إيرانية عمرها أسبوع من الحرب، بل ثمرة صراع طويل الأمد تديره إيران بحكمة بالغة واقتدار.
-
"إسرائيل" ومعها الشرق الأوسط إزاء الحرب على إيران باتت أمام معادلة جديدة.
دخلت الحرب بين إيران و"إسرائيل" أسبوعها الثاني، والملاحظ في ظل تسارع وتيرة الأحداث الجارية، أن ثمة ملامح تتبدى تعكس تحوّلاً استراتيجياً تقوده إيران في هذه المرحلة بحكمة بالغة وتكتيك عال وخطى محسوبة تصوغ المشهد بطريقة تجعل المواجهة مع "إسرائيل" مكلفة ومفتوحة النهايات، ورفض الرضوخ والإخضاع حتى الآن.
الواضح، وبعد متابعة حثيثة للأسبوع الأول من مجريات الحرب، أن إيران في إستراتيجية الرد على العدوان الإسرائيلي المباشر عليها، باتت أكثر ثقة وجرأة وهي التي تتحكم في المشهد، وتقود المواجهة كفاعل مباشر ورئيس وباستنزاف ذكي تعيد فيه صوغ مفاهيم القوة والتفوق العسكري في المنطقة.
القصف الإيراني النوعي والمركّز على أهداف وسط "تل أبيب" وضواحيها، يشير إلى أننا وصلنا خط النهاية للجولة الأولى من المواجهة، لكن، ماذا بعد؟
سؤال جوهري يحتاج إلى قراءة عميقة للمشهد، فمستوى تسارع الأحداث بين إيران و "إسرائيل" استثنائي والنتائج ستكون استثنائية بشأن قدرات إيران الصاروخية ومدى تأثيرها، فكل المؤشرات تقول إن الضربة الإيرانية المؤلمة لـ"إسرائيل" والتي أصابت بعض المراكز الحساسة فيها على مدار الأسبوع الأول ستسرع من دخول أميركا على خط المواجهة المباشرة، وهذا بطبيعة الحال سيوسع دائرة المواجهة ودخول أطراف محور المقاومة في الجولة الثانية من الحرب، و لاحظنا كيف أعلن الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم موقفه من الحرب الدائرة، حين قال: "مسؤوليتنا أن نكون إلى جانب إيران، وسنتصرف بما نراه مناسباً. "
الضربات الصاروخية الإيرانية الأخيرة التي استخدمت صواريخ انشطارية، واستهدافها مراكز حساسة ومهمة في "إسرائيل" يعني أننا أمام مؤشر تعاظم عسكري إيراني من حيث الدقة والقوة في منظومة الصواريخ، أما "إسرائيل" فتعيش في حال ذهول وإنكار للواقع معاً، في وقت يتراجع أداء الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وحسب ما تحدثت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية نقلاً عن مسؤولين أن "إسرائيل" باتت مضطرة لترشيد استخدام صواريخها الاعتراضية أمام استراتيجية القصف الإيراني نظراً إلى التكلفة العالية، هذا يعني أن "إسرائيل" بدأت تنكشف بتراجع دفاعاتها الجوية، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، كيف لو استمرت الحرب وتحقق سيناريو المشاركة الأميركية المباشرة، وتوسعت بقعتها كنتيجة لهذا التوسع ودخلت فعلياً أطراف أخرى من محور المقاومة كحزب الله في لبنان الأقرب إلى فلسطين المحتلة جغرافياً، والذي لا يزال يملك من قوة العسكرية القادرة على التأثير في المشهد، وهنا لا ننسى كيف استعجل نتنياهو خلال المواجهة الأخيرة معه اتفاق وقف إطلاق النار بعد أن شهدت مستوطنات الشمال دماراً واسعاً وكبيراً وغير مسبوق بفعلها!
القراءة الهادئة للمشهد الإقليمي تقول إن ثمة استراتيجيات جديدة تنتهجها إيران قبل وأثناء المواجهة مع "إسرائيل"، القوة النووية المدعومة أميركياً أصبحت في وضع دفاعي غير مسبوق، ولّد واقعاً جديداً جعل من "تل أبيب" ليست المدينة التي صورتها "إسرائيل" على مدار عقود مضت بالمدينة المتفوقة تكنولوجياً وأمنياً واقتصادياً، بل "تل أبيب" الجديدة المرتبكة المتخبطة التي أصبحت تتلقى الضربات بدل أن توجهها، وتحسب خطواتها بدقة بعدما كانت تندفع من دون تردد باستخدام القوة المفرطة.
الأولى/ استراتيجية الحزام المقاوم المدعوم بالصبر الاستراتيجي، والمقصود هنا دعم محور المقاومة ابتداءً من حزب الله في لبنان وحركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، والذي نجحت إيران على مدار السنوات الماضية في بنائه وحقق توازناً في الردع وأربك حسابات "إسرائيل" في أكثر من محطة من محطات الصراع كان آخرها بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، وهذه استراتيجية استخدمت قبل المواجهة المباشرة والجارية بين إيران و"إسرائيل".
الثانية/ استراتيجية الحكمة والسيطرة، فالحكمة تختلف اختلافاً كلياً عن الضعف كما حاول البعض أن يروّج أحياناً، والجمهورية الإسلامية الإيرانية تدرك جيداً أن الحرب ليست فقط من يطلق الطلقة الأولى، بل من يصمد أكثر حتى النهاية وكيف ستكون النتائج وينجح في إعادة صوغ المعادلات. ولهذا، فإن إيران وظفت منذ الأسبوع الأول الحكمة في الحرب بحيث تخوض حرباً طويلة النفس، تقبل التضحيات من أجل أهداف إستراتيجية أكبر.
الثالثة/ استراتيجية الانهيار البطيء لصورة "إسرائيل" الأمنية، فمنذ نشأة "إسرائيل" حرصت على تصدير صورتها القوية التي أخافت بها كل المنطقة، وصورت نفسها بـ"الدولة والجيش اللذين لا يقهران"، إلا أن السنة والنصف الأخيرة من الحرب على غزة وما تبعها من عدوان أميركي على إيران ورد ايراني صادم ومفاجئ لـ"تل أبيب"، كشف تصدع هذه الصورة، إذ باتت "تل أبيب" تستهدف بصواريخ إيرانية دقيقة ومتنوعة تضرب أهدافاً حساسة، فيما بات الهروب إلى الملاجئ هو المشهد المعتاد لآلاف المستوطنين الذي بدأوا ينظرون إلى "تل أبيب" الجديدة بالمكان الذي لم يعد آمناً، وهذا التآكل البطيء الذي صنعته هذه الاستراتيجية لا يقاس بالخسائر المادية والبشرية والدمار الذي تحدثه الصواريخ، بل بانهيار واضح في العقيدة الأمنية الإسرائيلية من جهة، وفقدان الثقة لدى المستوطنين بقيادتهم التي جلبت لهم الحرب و الدمار، من جهة أخرى.
الرابعة/ استراتيجية تعزيز العزلة الدولية لـ"إسرائيل"، فقد ولد الواقع الذي خلفته الحرب على غزة واقعاً جديداً على "إسرائيل" نفسها وجعلها معزولة وتزداد عزلتها يومياً بعد يوم، وهذا الواقع شكل فرصة ذهبية لإيران لتثبيت أوراقها بقوة في المنطقة بإعلانها رفض الخضوع والابتزاز في المفاوضات وإعلان موقفها وقدرتها بالرد على أي تهديد يمس أمنها القومي، وهذا ما كان إزاء الضربة الإسرائيلية المفاجئة التي استهدفت قيادتها وبعض الأهداف في طهران، لكن الأهم أمام هذه التطورات هو أن القوة في الرد والردع الإيرانيين جعل المنطقة تغلي على صفيح ساخن وجعل "إسرائيل" تسير في حقل ألغام، وكل خطوة تخطوها قد تشعل جبهة مواجهة جديدة، خاصة مع تحكم إيران بمضيقي هرمز وباب المندب، وهذا يعني أن إيران تمارس على "إسرائيل" أقصى درجات الضغط بحكمة بالغة.
الخامسة/ استراتيجية التبدل في موازين الردع. "تل أبيب" الجديدة ليس مسمى بلاغياً أطلقه أو وصفاً لشوارع ومبان دمرت بصواريخ إيرانية، وإنما مفردات تعكس واقعاً جديداً وتحوّلاً في ميزان الردع، "تل أبيب" التي تحسب حساب غزة بعد "طوفان الأقصى"، هي ذاتها "تل أبيب" التي تهاب صواريخ حزب الله وصواريخ ومسيرات اليمن وتعمل لها ألف حساب، كما تحسب اليوم حساب صواريخ إيران ومسيراتها، "تل أبيب" التي لم تعد تملك زمام المبادرة، تواجه اليوم الضربات كأنها مرمى للصواريخ، وهذا التبدل بحد ذاته بحد ذاته يعد انتصاراً استراتيجياً لإيران وحلفائها التي أسقطت أسطورة "إسرائيل التي لا تقهر".
هذه الحرب لن تكون قصيرة كما يعتقد البعض ولن تقف عند حدود إيران و"إسرائيل"، ستتسع رقعتها وستنخرط فيها دول وأطراف إقليمية، فأميركا ليست على الحياد ومن يظن ذلك فهو واهم فالترسانة العسكرية الإسرائيلية برمتها والمتجددة يومياً أميركية بامتياز، والمنطقة التي اشتعلت منذ السابع من أكتوبر 2023 ولا تزال النار تتمدد بغطرسة "إسرائيل" وجنون العظمة الأميركية يعكس تحالفاً قوياً، هذا التحالف الذي يريد ضمان خضوع المنطقة وإيران لعقود قادمة.
"إسرائيل" ومعها الشرق الأوسط إزاء الحرب على إيران، باتت أمام معادلة جديدة لا تقاس بعدد الطائرات والصواريخ، بل بالقدرة على الصمود وصناعة بيئة تخدم أهدافها الكبرى، وبالتالي إيران نجحت إلى حد كبير من خلال استراتيجية الحكمة في الحرب أن تقلص مساحات المناورة أمام "إسرائيل" وفاجأتها وأربكت حساباتها.
"تل أبيب" الجديدة، التي بدت ملامحها تتشكل ليست نتيجة لضربات عسكرية إيرانية عمرها أسبوع من الحرب، بل ثمرة صراع طويل الأمد تديره إيران بحكمة بالغة واقتدار، ستنتج عنه خريطة سياسية جديدة وتحالفات قائمة على القوة والردع ستضطر وتجبر أطرافاً عديدة في المنطقة على التعامل معها.