كيف نجت إيران من موجة الصدمة؟ سياق درامي وحدث دراماتيكي

الخيارات تضيق، والخطأ في الحساب بات أكثر فتكاً من الصواريخ ذاتها. وبين "مافريك" ونتنياهو وترامب، قد تكون الحرب المقبلة أشد تعقيدًا من أن تُروى في فيلم، أو تُختصر في عنوان.

  • طهران: التحوّل من الصبر الاستراتيجي إلى الهجوم المنضبط.
    طهران: التحوّل من الصبر الاستراتيجي إلى الهجوم المنضبط.

في ربيع عام 2022، أطلقت شركة "باراماونت" العالمية الجزء الجديد من فيلم Top Gun: Maverick، الذي عاد فيه النجم توم كروز إلى السينما بشخصيته الشهيرة "مافريك"، بعد غياب دام ثلاثة عقود. بدا الأمر لأول وهلة وكأنه مجرّد إنتاج هوليوودي تقليدي، يعيد بعث البطولات الفردية في سياق الأكشن الجوي المعهود. لكن، ما أن يغوص المشاهد في تفاصيل الفيلم الدقيقة، حتى تتكشّف طبقات سردية تحمل دلالات تتجاوز المتعة البصرية إلى إشارات استراتيجية تستشرف المستقبل.

ففي هذا الجزء، يُكلّف مافريك بمهمة تبدو أقرب إلى الانتحار: قيادة مجموعة طيارين حربيين لتدمير منشأة نووية محصّنة داخل جبال وعرة، يصعب حتى على الرادارات بلوغها. تخطيط المهمة، وحساب الزوايا، ومسارات الطيران المنخفض، وحتى شكل التضاريس، كلها تتطابق -بشكل يكاد لا يترك مجالاً للمصادفة-مع أوصاف منشأة "فوردو" الإيرانية، تلك التي ظلت لسنوات عقدة استراتيجية يصعب تجاوزها في النزاع النووي بين طهران وخصومها.

صحيح أن الفيلم لم يذكر "فوردو" بالاسم، لكن التفاصيل ليست بريئة، بل تشي بأن هوليوود قدّمت، على طريقتها، محاكاة درامية لمهمة عسكرية حقيقية ظلت قيد الدراسة في أروقة البنتاغون و "تل أبيب". واليوم، بعد اندلاع موجة جديدة من التصعيد بين "إسرائيل" وإيران، أو بصورةٍ أدق، وصول موجات العدوان الإسرائيلي على المنطقة إلى إيران، تعود "فوردو" إلى الواجهة كعنوان محتمل لانفجارٍ كبير، قد لا يبقى في نطاق المنطقة، بل قد يطال العالم بأسره.

المهمة الإسرائيلية: فشل الصدمة

في الأيام الأولى من المواجهة، أطلقت "إسرائيل" ما يمكن وصفه بـ"موجة الصدمة"، وهي عملية عسكرية مفاجئة ذات أهداف تكتيكية واستراتيجية مزدوجة. كانت الغاية المعلنة تدمير البنية القيادية والعلمية لإيران، وتفكيك هرم حرس الثورة، وإحداث شرخ داخلي قد يفضي إلى انقلاب أو انهيار من الداخل، غير أن النتائج جاءت بعكس ما خُطط لها.

فقد أصابت الغارات أهدافًا حساسة فعلًا، شملت علماء نوويين وقادة عسكريين رفيعي المستوى، غير أنها لم تفلح في ضرب بنية النظام، بل جرّت "تل أبيب" إلى حلقة ردود متبادلة. بعد امتصاص الضربة الأولى، تحوّلت إيران من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، فيما فقدت "إسرائيل" عنصرَي المباغتة والمفاجأة، اللذين شكّلا لبّ خطتها.

وبدلاً من إرباك الخصم، وجدت "إسرائيل" نفسها وسط دوامة من التصعيد المحسوب، إذ لم تنجح "الصدمة" في إنتاج الانهيار، بل بدت كخطوة أولى في معركة طويلة الأمد، أكثر تعقيدًا مما تصوّر صانع القرار الإسرائيلي.

طهران: التحوّل من الصبر الاستراتيجي إلى الهجوم المنضبط

ردّ الفعل الإيراني أتى على مراحل، لكنه لم يكن ارتجاليًا. بل بدا كأن القيادة الإيرانية كانت تعدّ لهذا السيناريو منذ زمن بعيد. فبعد سنتين من التوترات المتقطعة وعمليات الاختراق السيبراني والاغتيالات الغامضة، استخلصت طهران دروسها، وأعادت بناء تموضعها العسكري والدبلوماسي. وفور تلقي الضربة الأولى، بدأت بإرسال رسائل مركّبة عبر صواريخها ومواقفها السياسية.

أولًا، أُعلن رسميًا عن وقف المفاوضات النووية، وجرى نقل صلاحيات القرار الاستراتيجي إلى قيادة حرس الثورة. وثانيًا، بدأت صواريخ دقيقة في الانطلاق في اتجاه أهداف إسرائيلية، تحمل في طياتها رسالة واضحة: نحن لا نردّ فقط، بل نعيد رسم قواعد الاشتباك.

لكن المفاجأة الحقيقية كانت في طبيعة هذه الصواريخ: لم تكن كثيفة من حيث العدد، لكنها شديدة التأثير من حيث المعنى. صاروخ واحد يصيب هدفًا نوعيًا بدقة، يكفي ليرسل رسالة موازية لعشرات الغارات. في لحظة، تحوّل ميزان المعركة إلى حرب معنوية، وليست فقط ميدانية.

نتنياهو وترامب: تحالف الظل وخيارات اللحظة الأخيرة

ما دفع إيران إلى تفعيل هذا المسار لم يكن الاعتداء الإسرائيلي فقط، بل سلسلة طويلة من التحضيرات الدبلوماسية والتنسيقات السرية. فقد بذل فريق نتنياهو، وعلى رأسه وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، ورئيس الموساد دافيد بارنياع، جهودًا استثنائية لإقناع دوائر القرار في واشنطن بأن إيران اقتربت من لحظة إنتاج القنبلة النووية. وبعد أن استندوا إلى تقارير-مزاعم استخبارية متضاربة، قدّموا لـترامب "دلائل" عُدّت حاسمة.

ويبدو أن ترامب، الذي كان دائم الترقب لأي فرصة استعراضية تعيد تثبيت صورته كصانع قرار، اقتنع أخيرًا بمنطق نتنياهو. فأعطى الضوء الأخضر لمهمة "جراحة خاطفة"، آملًا أن يحقق إنجازًا كبيرًا من دون الدخول في حرب شاملة.

لكن العملية لم تسر كما أُريد لها. فبعد الهجمات، وجد ترامب نفسه أمام مأزق: فإما أن يتورط في حرب مفتوحة لا يضمن مآلاتها، وإما أن يتراجع فيخسر ورقته الضاغطة داخليًا وخارجيًا. تغريدته الشهيرة "أخلوا طهران فورًا"، لم تكن سوى محاولة استعادة الزخم بعد انكشاف خيبة الأمل الأولى، مع التركيز على العاصمة الإيرانية التي أراد أن تعمّها الفوضى، ويتحرك سكانها للانقلاب على بلادهم.

إيران: أكثر من ردع، وأقل من حرب

ما أرادته طهران كان أكثر من ردّ، وأقل من حرب. فهي لم ترد أن تنزلق إلى مواجهة مفتوحة، لكنها في الوقت نفسه، لم تقبل بأن تُختزل في موقع المتلقي. ضرباتها كانت دقيقة بقدر ما كانت محسوبة: أرادت وقف العدوان، وإجبار "إسرائيل" على العودة إلى قواعد الاشتباك التقليدية، التي نشأت عقب الاتفاق النووي لعام 2015.

لكنها أيضًا أرادت ألا تنتهي المواجهة بمجرد وقف إطلاق النار. فمجرّد الصمت في لحظة يُستهدف فيها العمق النووي والعسكري الإيراني، كان سيُقرأ على أنه ضعف. ولذا، جرى الكشف عن منظومات صاروخية جديدة، وإعلان إسقاط مقاتلة "F-35"، وهي خطوة رمزية بالغة التأثير على صعيد الحرب النفسية. وتحديد مستقبل المواجهة، فهذا النوع من الطائرات يعدّ مفخرة إنتاج "لوكهيد مارتن" الأميركية، التي لم تتعرض بعد لاختبارٍ حقيقي في المعارك.

المعادلة الاستراتيجية الجديدة: حرب الاستنزاف الدقيقة

التحوّل الأخطر في هذه المواجهة ليس في الضربات ذاتها، بل في الدينامية التي فرضتها على شكل الحرب المستقبلية. فقد اتضح أن فارق الحجم والمساحة بين إيران و"إسرائيل"، يُعطي طهران هامش مناورة أوسع في حرب استنزاف صاروخية دقيقة. فبينما تستطيع "إسرائيل" استهداف مواقع إيرانية، تبقى منشآتها متمددة، ومحصنة، ومشتتة، أما العمق الإسرائيلي، فهو محدود ومكشوف، يجعل من صاروخ واحد دقيق كافيًا لإحداث شلل وظيفي في منشأة حيوية.

هذه المعادلة تُقلق واشنطن أكثر مما تُقلق "تل أبيب". فالتكلفة المحتملة لأي تصعيد ميداني باتت مضاعفة، سيما في ظل حساسية الاقتصاد العالمي، والأوضاع السياسية الداخلية الأميركية، واقتراب موعد الانتخابات النصفية. ومن هنا، يمكن فهم التردد الأميركي في المضي قدمًا بعملية عسكرية شاملة ضد "فوردو".

موسكو وبكين: الحضور الصامت، والدعم المحسوب

في هذه اللحظة الحرجة، بدت روسيا والصين وكأنهما تتحركان على إيقاع مختلف. بوتين أرسل إشارات واضحة بأن بلاده تعدّ ضرب المنشآت الإيرانية، لا سيما "فوردو"، خطًا أحمر، ليس فقط لأنها حليفة استراتيجية لطهران، بل أيضًا بسبب وجود خبراء روس في مواقع نووية عدة مثل بوشهر. أما الصين، فقد ركزت على ضرورة عدم الإخلال بالاستقرار الإقليمي، ورفضت بشكل قاطع أي تغيير جذري في معادلة الردع النووي في المنطقة.

موقف موسكو ليس تكتيكياً فقط، بل يعكس فهماً أعمق. إذ تدرك أن أي انكسار كبير لإيران، يعني فتح الباب أمام واشنطن لتصفية الحسابات مع جميع القوى المناهضة للهيمنة الأميركية. ومن هنا، فإن الموقف الروسي يستند إلى رؤية استراتيجية لا تتعلق فقط بطهران، بل بمكانة موسكو في النظام الدولي.

ما بدأ كفيلم، قد يتحوّل إلى واقعٍ تفوق مشاهده ما تجرأ الخيال على تصويره. فـ"مافريك" أكثر من طيار عنيد في فيلم. لقد تحوّل إلى رمز لمهمة تنذر باهتزاز النظام الدولي برمّته. إن الهجوم على "فوردو" -إن تم-لن يكون فقط عملية عسكرية، بل إعلاناً رسمياً عن نهاية مرحلة، وبداية أخرى، تُرسم فيها خرائط جديدة بالقوة والصواريخ والتحالفات الثقيلة.

لكن السؤال الذي يظل معلقاً: هل يُرسل ترامب "مافريك" فعلاً إلى "فوردو"؟ أم أنه، وقد أدرك حجم الفخ، يختار التراجع، ولو على حساب صورة الرئيس الذي وعد بألا يتردد في الدفاع عن مصالح أميركا؟

الخيارات تضيق، والخطأ في الحساب بات أكثر فتكاً من الصواريخ ذاتها. وبين "مافريك" ونتنياهو وترامب، قد تكون الحرب المقبلة أشد تعقيدًا من أن تُروى في فيلم، أو تُختصر في عنوان.

"إسرائيل" تشن عدواناً على الجمهورية الإسلامية في إيران فجر الجمعة 13 حزيران/يونيو يستهدف منشآت نووية وقادة عسكريين، إيران ترد بإطلاق مئات المسيرات والصواريخ التي تستهدف مطارات الاحتلال ومنشآته العسكرية.