كيف وصل اليمين المتطرف إلى السلطة في تشيكيا؟
نجاح بابيتش في الانتخابات التشيكية يؤكد أن الشعبويين سيواصلون صعودهم في أوروبا، وهو ما يعكس وجود أزمة عميقة في النموذج الليبرالي الذي يسود أوروبا الغربية منذ الحرب العالمية الثانية.
-
الاتحاد الأوروبي لم يعد نموذجاً للازدهار والديمقراطية.
انضمت تشيكيا إلى بولندا كدولة أوروبية جديدة تشهد صعود أحزاب اليمين المتطرف المعادية للأجندات الأطلسية للاتحاد الأوروبي، إذ شكل فوز الملياردير الشعبوي أندريه بابيش في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تشيكيا حلقة جديدة في مسار الصعود المتواصل للشعبوية في أوروبا، وهو ما يؤذن بإعادة تشكيل المشهد الأوروبي برمته، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا.
ورغم أن حزب بابيش “آنُو”، وهو اختصار لعبارة “نعم” باللغات التشيكية والسلوفاكية، لم يحقق الأغلبية المطلقة، إلا أنّ حصوله على نحو 35 % من الأصوات، أي ما يعادل 80 مقعدًا من أصل 200 في مجلس النواب، يؤكد تراجع ثقة الناخبين بالأحزاب التقليدية الليبرالية والمحافظة التي حكمت دول وسط أوروبا على مدى العقود الأربعة الماضية...
خلفية صعود بابيش
الجدير ذكره أن أندريه بابيش ليس جديدًا على الحياة السياسية التشيكية. فقد سبق أن شغل منصب رئيس الوزراء بين عامي 2017 و2021، وقاد حملته الأخيرة بعد تبنّيه خطاباً شعبوياً صريحاً يخلط بين النقد الحاد للاتحاد الأوروبي والدفاع عن “سيادة الأمة التشيكية”.
وهو يستخدم تعابير باتت مألوفة في قاموس الشعبويين الأوروبيين مثل مهاجمة “النخب الليبرالية”، واتهام بروكسل بفرض سياسات بيئية واقتصادية “تضر بالمواطن العادي”، فضلًا عن استغلال مشاعر القلق لدى المواطنين التشيك تجاه اللاجئين الأوكرانيين الذين تدفقوا إلى البلاد الأوروبية ومن ضمنها تشيكيا وباتوا يشكلون عبئاً اقتصادياً واجتماعياً على البلدان التي لجأوا اليها.
وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي حققه حزب “آنو”، فإن بابيش لا يمتلك أغلبية مريحة تسمح له بالحكم وحده، ما جعله يبدأ مفاوضات مع حزبين يمينيين صغيرين هما حزب “السائقون لأنفسهم” المعارض للاتفاق الأخضر الأوروبي، وحزب “الحرية والديمقراطية المباشرة” بقيادة التشيكي الياباني الأصل توميو أوكامورا، المعروف بخطابه المعادي للمهاجرين ومطالبته بإجراء استفتاء بشأن بقاء تشيكيا عضواً في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. والجدير ذكره أن بابيتش يتبنى خطاباً قومياً متشدداً ضد “اللاجئين الأوكرانيين” وضد الفساد المستشري في مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
ويقدم بابيش نفسه على أنه "رجل الأعمال الذي يفهم الشعب"، مستعيناً بتجربته في عالم المال لتبرير سياساته الاقتصادية المناهضة للنخب البيروقراطية. وبهذا فإن برنامجه يتقاطع مع برامج زعماء شعبويين آخرين مثل فيكتور أوربان في هنغاريا وماتيو سالفيني في إيطاليا ومارين لوبان في فرنسا، الذين يعتبرون أن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى ضرب السيادة الوطنية للدول الأعضاء في الاتحاد لمصلحة الشركات الكبرى.
في هذا الإطار، يعارض بابيش خطة الاتحاد لحظر بيع السيارات العاملة بالوقود الأحفوري بحلول عام 2035، ويرى أنها تضر اقتصادياً بالعائلات التشيكية الفقيرة. كذلك يرفض بابيش تحمّل المواطنين التشيك كلفة أجندة الاتحاد الأوروبي بالانتقال إلى الطاقة النظيفة، مفضلاً التدرج البطيء في تطبيق هذه الأجندة بما لا يضر بمصالح الطبقات الوسطى والفقيرة. لذا فإن خطابه يلقى شعبية كبيرة في صفوف الطبقة الوسطى والدنيا التي تعاني تداعيات التضخم وارتفاع الأسعار في مرحلة ما بعد جائحة كورونا وارتفاع أكلاف الطاقة بنتيجة تخفيف الاتحاد الأوروبي اعتماده على النفط والغاز الروسيين وفرضه عقوبات على روسيا.
الموقف من أوكرانيا
وتعتبر الحرب في أوكرانيا وموقف بابيش منها من العوامل الحاسمة في صعوده. فقد لاقى موقفه المعارض لدعم نظام الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي في حربه ضد روسيا شعبية كبيرة لدى المواطنين التشيك الذين يلقون باللائمة على تراجع أوضاعهم الاقتصادية على هذه الحرب التي قلصت إمدادات النفط والغاز الروسي الرخيصة الثمن وأسهمت في تدفق ملايين اللاجئين الأوكرانيين إلى الدول الأوروبية ومن ضمنها تشيكيا، ما زاد من الأعباء الاقتصادية على هذه الدول. وكان بابيتش قد وعد أثناء حملته الانتخابية بإلغاء “مبادرة الذخيرة التشيكية” التي زوّدت براغ بموجبها كييف بأكثر من 3.5 ملايين قذيفة مدفعية منذ العام 2022، وذلك بتمويل أوروبي وأطلسي. وقد برر بابيش قراره بفساد المسؤولين الأوكرانيين وعلى رأسهم زيلنسكي، وبنقص الشفافية واعتباره أن الأموال المخصصة لدعم كييف يجب أن تحول إلى الشعب التشيكي لدعمه في مواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها.
ورغم أنه أعلن عدم معارضته للتعاون مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، إلا أن مواقفه توحي بتحول محتمل في السياسة التشيكية لجهة معارضة الحرب الأوكرانية على غرار النهج الذي يعتمده رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان. في هذا الإطار فإن بابيش يتقاطع مع أوربان في دعوته للموازنة بين التزامات بلاده تجاه حلف شمال الأطلسي الناتو من جهة، ومصالح بلاده الوطنية من جهة أخرى.
ولا يمكن فصل ظاهرة بابيش عن الموجة الشعبوية التي تجتاح أوروبا منذ منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حيث شهدت القارة صعود زعماء يرفعون شعار "استعادة السيادة ضد ما يعتبرونه سياسات الهيمنة النيوليبرالية للاتحاد الأوروبي. ففي هنغاريا، أسس فيكتور أوربان نموذجًا متكاملاً للحكم الشعبوي المحافظ، حيث دمج بين السياسات القومية والاقتصاد الحمائي المغلفين بهوية مسيحية تقليدية، وتبنى خطاباً معادياً للمهاجرين وللقيم الليبرالية المنحلّة. وفي بولندا، تبنّى حزب “القانون والعدالة” مساراً مشابهاً.
أما في فرنسا، فقد أصبحت مارين لوبان زعيمة للمعارضة والمرشحة الأبرز للرئاسة الفرنسية بفضل خطابها المعادي للعولمة والهجرة. وفي إيطاليا، وصلت جورجيا ميلوني إلى رئاسة الحكومة على رأس تحالف يميني محافظ ذي طابع قومي واضح. أما في هولندا، فقد صعد غيرت فيلدرز بنتيجة اعتماده خطاباً معادياً للاتحاد الأوروبي وللمهاجرين، في حين بات "البديل من أجل ألمانيا" القوة الثانية في استطلاعات الرأي الألمانية. بهذا، فإن فوز بابيش يشكّل حلقة جديدة في سلسلة من الانتصارات الشعبوية التي تعيد تعريف علاقة الشعوب الأوروبية بمؤسسات الاتحاد الأوروبي، وتبرز التناقض بين الهوية الوطنية والحكومة فوق القومية." والجدير ذكره أن الحرب الأوكرانية لعبت دوراً مسرعاً لصعود هذه التيارات والتي استندت في خطابها إلى جملة عوامل يعاني منها المواطن الأوروبي.
أسباب صعود الشعبوية
لقد أشرنا إلى الحرب الأوكرانية بصفتها عاملاً مسرعاً لصعود التيارات الشعبوية، إلا أن جذور صعود هذه التيارات تعود إلى أسباب متعددة. هنا لا بد من العودة إلى الأسباب البنيوية التي أسهمت في صعود التيارات الشعبوية.
أما أول هذه الأسباب فهو الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المزمنة الناتجة عن العولمة. فقد أدى انفتاح الأسواق إلى تآكل الصناعات المحلية وفقدان وظائف تقليدية، ما خلق شعورًا بالاغتراب لدى فئات واسعة من الطبقة الوسطى.
أما السبب الثاني فهو أزمة الهوية الثقافية التي باتت المجتمعات الأوروبية تعانيها نتيجة موجات الهجرة والحروب التي أدت إلى تصاعد المخاوف على الهوية الوطنية، والتي جعلت من الخطاب الشعبوي الملاذ الأخير الذي يمكن للشعوب الأوروبية أن تلجأ اليه في ظل تقديم الشعبويين للهوية القومية بوصفها خط الدفاع الأخير ضد التهديدات بتذويب الهويات الثقافية الأوروبية.
أما السبب الثالث، فيكمن في تراجع الثقة بالمؤسسات الديمقراطية التقليدية، سواء الأحزاب أم الإعلام أم البرلمانات. فقد أصبحت هذه المؤسسات في نظر كثيرين بؤراً للفساد، ما يفسر انجذاب الناس إلى شخصيات خارجة عن نادي النخب التقليدية مثل بابيش الذي يقدّم نفسه كرجل أعمال ناجح لا ينتمي إلى الطبقة السياسية.
ويدرك بابيش أن بلاده الصغيرة لا تستطيع مواجهة الاتحاد الأوروبي أو الناتو بشكل مباشر. لذلك يفضّل أن يلعب دور المعارض من الداخل عبر ممارسته ضغوطاً من الداخل، لتعديل سياسات بروكسل التي يراها مضرّة ببلاده. هذه الاستراتيجية شبيهة بتلك التي يتبعها أوربان في هنغاريا، حيث يستخدم تهديداته بالفيتو، للحصول على تنازلات مالية أو سياسية، من دون كسر قواعد اللعبة تمامًا. لكن هذا النهج يهدد بجعل الحكومات الشعبوية تقف في موقع وسط بين التمرد والتبعية، ما يجعلها عرضة لعزلة سياسية داخل الاتحاد.
إن نجاح بابيش في الانتخابات التشيكية يؤكد أن الشعبويين سيواصلون صعودهم في أوروبا، وهو ما يعكس وجود أزمة عميقة في النموذج الليبرالي الذي يسود أوروبا الغربية منذ الحرب العالمية الثانية.
فالاتحاد الأوروبي لم يعد نموذجاً للازدهار والديمقراطية نتيجة الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يعانيها، والتي فاقمتها الأزمة الأوكرانية. ومع تزايد الانقسامات الأوروبية وصعود النزعات القومية، فإن أوروبا باتت اليوم على مفترق طرق قد يؤدي إلى نهاية تجربة الوحدة فيها.