لماذا لا يعمل "تأثير راشومون" في غزة؟

اليوم غزة على شاشات التلفزة وعلى منصات التواصل الاجتماعي. وفي القريب العاجل لا بدّ أن تكون محور روايات وكتب وبكل لغات العالم، كي لا تموت بموت الأبطال صغاراً أكانوا أم كباراً.

  • ما جرى ما بعد السابع من أكتوبر من إبادة جماعية منظّمة لقطاع غزة لا يخضع لمنطق فيلم راشومون.
    ما جرى ما بعد السابع من أكتوبر من إبادة جماعية منظّمة لقطاع غزة لا يخضع لمنطق فيلم راشومون.

في العام 1951 نال الفيلم الياباني "راشومون" لأكيرا كوروساوا جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي، ونسب إليه الفضل في تقدّم السينما اليابانية إلى الواجهة العالمية. 

تدور قصة الفيلم حول جريمة قتل في إحدى الغابات اليابانية على يد قاطع طريق يغتصب زوجة ساموراي. أثناء المحاكمة تسرد شخصيات القصة رواياتها المتباينة لما جرى. الرسالة الفلسفية التي أراد المخرج كوروساوا إيصالها هي سعي الشخصيات لا إلى تبرئة نفسها من الجريمة، وإنما تأكيد مسؤوليتها الخاصة عن القتل، ولكن مع محاولة تصدير مبرّر أخلاقي له.

قاطع الطريق يروي أن زوجة الساموراي أرادت الذهاب معه مشترطة قتله لزوجها كي يخلّصها من عبء وجود رجلين في حياتها. فكان النزال وجهاً لوجه ومصرع الساموراي. 

أما الزوجة فتظهر نفسها على أنها الضحية التي اغتصبت، ولأنها لم تتحمّل نظرات زوجها الفاترة واللامبالية، قتلته. روح الزوج حضرت المحاكمة من خلال وسيط فسعت إلى إظهاره على أنه الرجل الطيب المخدوع فقرّر الانتحار، إذ إنه لا يمكنه أن يعيش مع العار الذي ألحقته به زوجته. ولكن القصة لا تنتهي هنا، فقد أدخل كوروساوا شخصية رابعة، وبالتالي وجهة نظر أخرى وهو الحطّاب الذي كان شاهداً من بعيد على الجريمة، فأظهرت روايته جبن وخوف الشخصيات الثلاث من خلال حوار لم يخلُ من الثقل الثقافي المجتمعي لهم، وإن أكد أن القاتل هو قاطع الطريق. 

خلاصة الفيلم تتعلّق بالحقيقة التي أرادت الشخصيات تشكيلها من جديد، وهي اعتبار أنّ لفعل القتل خلفية بطولية، ومبرّراً "أخلاقياً" يغلّفه. في روايات الشخوص (قاطع الطريق، الزوجة، روح الزوج) محاولات لإظهار البطولة والشرف في فعل القتل، ليأتي الحطّاب ويكشف الجبن والأنانية في الروايات الثلاث.

لا يمكن أن تشاهد هذا الفيلم الياباني القديم من دون الشعور بوجوب بعض الإسقاطات على ما تعيشه غزة خلال حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة منذ أكثر من أربعة أشهر ونصف الشهر.

الإسرائيلي جهد في تصدير الحرب المجنونة كردّ فعل على السابع من أكتوبر، فسوّق مقتل 1400 شخص وما رافق ذلك النهار من عمليات "اغتصاب وحرق للأطفال" بحسب الزعم الإسرائيلي والتبنّي الغربي الأعمى له.

انطلاقاً من قاعدة "وشهد شاهد من أهله"، أظهرت التقارير الصحافية الإسرائيلية زيف الرواية الرسمية، التي حاول نتنياهو الاتكاء عليها لإطلاق حرب إبادة شاملة يكون التهجير نتيجتها؛ الصحافة العبرية ذكرت في أكثر من تقرير أن عدد القتلى الإسرائيليين مبالغ فيه، كما أنّ كثراً ممن قتلوا كان بنيران صديقة. أما رواية حرق الأطفال فتبيّن أن لا دليل على ذلك، حالها حال عمليات الاغتصاب التي لم تثبت حتى الساعة. 

حركة حماس، كانت لها روايتها ورؤيتها للحرب؛ وهي سياسية بامتياز، حيث ركّزت على السياق الذي أتت به هذه العملية، ومَن استهدفت بالتحديد ولأيّ غاية وهدف. فالعملية لا يمكن انتزاعها من سياقها التاريخي، وهي ليست إلا محاولة للردّ على استعمار إحلالي يمتد عمره إلى أكثر من 75 عاماً.

ما يهمنا التصويب عليه هنا هو أن ما جرى ما بعد السابع من أكتوبر من إبادة جماعية منظّمة لقطاع غزة على يد الإسرائيليين وبدعم غربي واضح، لا يخضع لمنطق فيلم راشومون، حيث إن تعدّد الروايات ليس إلّا ذراً للرماد في العيون. إن منطق "تعدّد الروايات" الذي يحاول أتباع "إسرائيل" فرضه، ما هو إلا محاولات تسير عكس المنطق العلمي، تماماً كأن يقول أحدهم إن الأرض لا تدور، "هذا هو رأيي"، ولتذهب الإثباتات العلمية إلى الجحيم!

 لا يمكن للإسرائيلي اختراع مبرّر بطولي لحرب إبادة، إذ إن أي كائن على الكرة الأرضية لا يمكن أن ينكر المحرقة الفلسطينية الحاصلة في القطاع. لقد رأينا بأم العين الشهداء بالآلاف، وهنا رواية الحطّاب لا لزوم لها، فالحقيقة مثبتة بالدم.

ولقد رأينا حرق الغزيين بالفوسفور الأبيض. ورأينا تحلّل جثث الأطفال الخدّج في المستشفيات. كما رأينا الاستهداف المباشر لسيارات الإسعاف وقتل من فيها من أطفال ونساء، وليست الطفلة هند رجب واستغاثتها التي وصلت العالم قبل استشهادها إلا مثالاً يذكر على ذلك. 

في هذه البقعة الجغرافية التي تُدعى غزة، هناك حقيقة واحدة ومطلقة وهي أن ناسها يبادون على يد من يدّعون أحقيّة هذه الأرض من منطلق ميثولوجي توراتي! لذلك لا عجب أن نرى جندياً إسرائيلياً (حيا بن حامو) يقاتل في غزة، ويرى أن "الأخلاق" تحتّم عليه قتل كل عربي باعتباره مشتبهاً به! 

في "مسلسل غزة" المتواصل، إنّ تعدّد الروايات أو ما يعرف بـ"تأثير راشومون" ما هو إلا عار على البشرية. ومن تجليات هذا العار، محكمة العدل الدولية التي سمحت للقاتل أن يدافع عن حقه بالقتل والتجويع والتهجير. وليس هذا فحسب. العار هو أنْ لا يصدر قرار بوقف فوري لإطلاق النار، وبإصدار توجيهات لن تُحترم إسرائيلياً، وبعدم القبول بفرض إجراءات إضافية عاجلة لحماية رفح وهي الوجهة الإسرائيلية الجديدة للإبادة.

لقد كان موقف جنوب أفريقيا مشرّفاً في الدعوى التي رفعتها في محكمة العدل الدولية، ولكن سخرية القدر هي أن تضطر البشرية أساساً إلى طلب دعوى فيما هو مثبت ومصدّق تماماً. أما عار الأمم المتحدة في مجلس أمنها فحدّث بلا حرج. الفيتو الأميركي حاضر دوماً دفاعاً عن "إسرائيل" حال الأسلحة الأميركية التي لم يتوقّف نقلها لمواصلة العدوان على القطاع المحاصر.

من المستحيل كما أنه من الظلم أن تخضع غزة لتأثير راشومون، حتى وإن كان ذلك من زاوية الذاكرة التي غالباً ما تشوّه الوقائع. وهنا يكمن دورنا كعرب جميعاً شعوباً لا حكومات في توثيق ما نراه بكلّ ما ملكت أيدينا.

اليوم غزة على شاشات التلفزة وعلى منصات التواصل الاجتماعي. وفي القريب العاجل لا بدّ أن تكون محور روايات وكتب وبكل لغات العالم، كي لا تموت بموت الأبطال صغاراً أكانوا أم كباراً، ولكي لا نبقي الساحة خالية للإسرائيلي للاستفراد بنشر روايته؛ أليس هذا ما حصل في رواية المحرقة اليهودية؟ باختصار روايتنا لا ولن تقبل بذاكرة كاذبة. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.