معركة مخيم جباليا.. "جيش" نتنياهو وعار الهزيمة

البسالة التي تظهر في معارك مخيم جباليا ورفح تعكس روحاً قتالية عالية لا تعرف الهزيمة في قاموسها، وتؤكد نتيجة واحدة أنّ "إسرائيل" هزمت استراتيجياً، ونتنياهو يكابر لمعرفته بمصيره حال وضعت الحرب أوزارها.

  •  المقاومة لم تمت ولم يقضَ عليها، وتتعامل في هذه الحرب بسياسة النفس الطويل.
    المقاومة لم تمت ولم يقضَ عليها، وتتعامل في هذه الحرب بسياسة النفس الطويل.

كطائر العنقاء يخرجون من بين أزقة المخيم، ومن تحت ركام بيوت هدمت بطائرات الحقد الصهيوني، يرفعون لواء المقاومة في يد، وشارة النصر في اليد الأخرى، الاستسلام ليس في قاموسهم، يسطّرون ملحمة بطولية عنوانها "لن تدخلوا مخيمنا"، في معركة تاريخية مختلفة يدفع فيها "جيش" الاحتلال الإسرائيلي خسائر فادحة في كلّ متر يتقدّم فيه، في تعبير واضح عن إعجاز وبسالة كبيرة تعكسان روحاً قتالية عالية لآلاف المقاتلين من فصائل المقاومة وهم يستبسلون في الدفاع عن مخيمهم.

ما يجري في مخيم جباليا شمال غزة تحديداً ورغم مرور أكثر من 223 يوماً من الحرب على غزة، يسجّل دلالة واضحة أن "إسرائيل" فشلت في القضاء على المقاومة بخلق واقع أمني جديد كما زعمت، وأنّ كلّ ما ارتكب من جرائم قتل وتدمير لم يحقّق لنتنياهو ما يرنو إليه، كما فشل من سبقوه في "إسرائيل" منذ نشأتها بإيجاد استراتيجية شاملة للتعامل الأمني أو الخلاص من قطاع غزة، الذي شكّل وما زال يشكّل جبهة تؤرق وتقلق قادة الاحتلال الإسرائيلي. 

مشاهد الفيديو التي تبثّها المقاومة الفلسطينية يومياً، سواء من معركة مخيم جباليا شمالاً أو حتى من رفح جنوباً، تشير إلى خسائر مهولة وصفعات مدوّية يتلقّاها "جيش" الاحتلال على يد قوى مقاومة أخذت قراراً منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر بتمريغ أنف "جيش" الاحتلال الإسرائيلي في تراب غزة وعلى أعتاب مخيماتها. 

مثل هذه الخسائر، ومن خلال المتابعة المستمرة فرضت حالاً من الإحباط المتصاعد في صفوف "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، وصل إلى حد كتابة عرائض والتوقيع عليها برفض الخدمة لمئات الجنود خوفاً من وحل غزة، والمطالبة الصريحة لأهليهم الإعفاء من الاشتراك في معارك مخيم جباليا ورفح.

كما انعكس بشكل سلبي وهجومي من مؤسسة "الجيش" على نتنياهو، وأحدث تصدّعات واضحة في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وأدّى إلى هجوم إعلامي غير مسبوق على إصرار نتنياهو الذي انكشفت مخططاته الرامية إلى إطالة أمد الحرب تحقيقاً لأغراض سياسية، وهذا ما ذهبت إليه صحيفة هآرتس الإسرائيلية التي قالت حديثاً: "حرب غزة ستسجّل في تاريخنا عار الهزيمة الأكثر خزياً على مرّ السنين، وهذا من دون أن نأخذ بالحسبان فضيحة فشل إسرائيل في السابع من أكتوبر العسكرية".

في آخر تقييم إسرائيلي لمسار الحرب في قطاع غزة، نشرت صحيفة معاريف الإسرائيلية استعراضاً لمجريات الحرب بعد سبعة أشهر ونصف الشهر، أشارت إلى أنه ومنذ السابع من أكتوبر و"إسرائيل" في حال طوارئ، ولم يقتصر الأمر على عدم تحقيق أهداف الحرب، بل إنّ وضع "إسرائيل" بعد هذه الأشهر من الحرب أسوأ ممّا كان عليه يوم السابع من أكتوبر.

وأضافت الصحيفة أن "إسرائيل" لا تمرّ في أزمة أو وقت صعب فقط، بل هي تعيش الخطر الوجودي. ومثل هذا التقييم يتداول بشكل مستمر في "إسرائيل" التي باتت تشعر أن بداية النهاية لكيانها المزعوم قد بدأ بالفعل منذ السابع من أكتوبر. 

مجريات الحرب على قطاع غزة ثبّتت نتيجة واحدة باتت مترسّخة في العقل والذاكرة بأنّ "إسرائيل" هزمت استراتيجياً ولم يبقَ سوى اعترافها بالهزيمة بعد الفشل والانكسار، وهذا ما يشير إليه بشكل يومي خبراء وقادة عسكريون وأمنيون في أميركا و"إسرائيل" نفسها.

فالبسالة التي تظهر في معارك مخيم جباليا ورفح تعكس روحاً قتالية عالية لا تعرف الهزيمة في قاموسها، وتؤكد نتيجة واحدة أنّ "إسرائيل" هزمت استراتيجياً، ونتنياهو يكابر لمعرفته بمصيره حال وضعت الحرب أوزارها.

ثمّة عوامل مهمة مع تغيّر بيئة وتكتيكات المعركة الدائرة شمالاً في مخيم جباليا وجنوباً في رفح وعلى الجبهة الشمالية مع حزب الله، بدأت ترسم مشهداً دراماتيكياً جديداً للحرب الدائرة في قطاع غزة، مفاده أنّ الخسارة والهزيمة عنوان لحرب يقودها نتنياهو و"جيشه" المأزوم في غزة. فمعركة جباليا التي زعم نتنياهو أنه قضى على المقاومة فيها قبل أشهر، قلبت الصورة تماماً، في وقت انكشفت فيه بشاعة "إسرائيل" وعجزها عن القتال من دون دعم أميركي غربي بالسلاح، كان آخرها إمداد إدارة بايدن لها بالسلاح بما يكفيها لمدة ستة أشهر، لكسر إرادة الشعب الفلسطيني ومقاومته.

حال الغليان الداخلي في "إسرائيل" مؤشّر كبير على رسم مشهد جديد للحرب شعبياً ورسمياً، في وقت يطالب نتنياهو بوجود إسرائيلي دائم في غزة، مقابل رفض قاطع لمؤسسة "الجيش" لمثل هذا السيناريو بسبب الكلفة العالية التي يدفعها يومياً في مخيم جباليا ورفح جنوباً ومحاور القتال الأخرى، وهو ما أدى إلى استقالات فعليّة في قادة "جيش" الاحتلال، أبرزها رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في "جيش" الاحتلال، وبداية تصدّعات واضحة في مجلس الحرب.

العمليات النوعية التي وثّقتها كاميرات المقاومة، والعودة لقصف المدن الفلسطينية المحتلة المحاذية لقطاع غزة حتى بئر السبع، شكّلت خيبة كبيرة لدى نتنياهو وقادة "جيشه" الذي زعم أنه نجح في القضاء على المقاومة، وأن وضعاً أمنياً جديداً بدأ في شمال غزة. 

ارتفاع حدّة الضغط على "إسرائيل" وتكثيف العمل القانوني الدولي بموازاة العمل الميداني المقاوم، خاصة من دولة جنوب أفريقيا، وانضمام دول أخرى لإصدار أوامر اعتقال بحقّ نتنياهو وقادة "جيشه" الآخرين أحدث عامل إرباك كبيراً في "إسرائيل". فتكثيف حزب الله ضرباته الموجعة لـ "إسرائيل" و"جيش" الاحتلال على الجبهة الشمالية شكّل عامل ضغط كبيراً ومؤثّراً على نتنياهو الذي لا يرغب باشتعالها أكثر، في ظل التركيز على قطاع غزة وفرض حال تخبّط داخل مؤسسة "الجيش" التي تدفع الفاتورة المكلفة يومياً.

"إسرائيل" تواجه فشلاً استراتيجياً متواصلاً في قطاع غزة وهي تتنقل بين جباليا مرّة ورفح وحيّ الزيتون مرات ومرات، وبات عنوان الحرب المسيطر أكثر في "إسرائيل" هو الخسائر والتصدّع في مكوّنات مجلس الحرب، والذي لم يعد لدى نتنياهو القدرة على إخفائه بعد الملاسنة غير المسبوقة بينه وبين وزير "جيش" الاحتلال يؤآف غالانت، والتي دعاه فيها لاتخاذ قرار بالإعلان أن "إسرائيل" لن تكون لها سيطرة على قطاع غزة، وقال بوضوح: "أطرح القضية في مجلس الحرب من دون إجابة واضحة، ناهيك عن إشارات التمرّد والاستقالات التي حدثت مؤخّراً نتيجة تهرّب نتنياهو من الإجابة عن السؤال الأهم المتعلّق باليوم التالي للحرب، والذي شكّل صورة إحباط كبيرة لدى قادة "جيش" الاحتلال، بل يعدّ سبباً رئيسياً في تعثّر "الجيش" وفشله في جباليا ومن قبلها الزيتون وحالياً في رفح.

إنّ هذه الخلافات ليست بعيدة كثيراً عن كلفة دخول جباليا ورفح والزيتون والخسائر التي تكبّدها "جيش" الاحتلال الإسرائيلي على مدار سبعة أشهر، وصولاً للعملية المركّبة في مخيم جباليا والتي راح ضحيتها أكثر من خمسة عشر جندياً إسرائيلياً في تفجير مبنى ملغّم قامت كتائب القسام بتفجيره، وهذا يعطي دلالة على أن المقاومة لم تمت ولم يقضَ عليها، وتتعامل في هذه الحرب بسياسة النفس الطويل، وهي قادرة على التحكّم والسيطرة كما لو أنها في بداية الأيام الأولى للحرب.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.