من أين تأتي ثقة الصين في مواجهة الرسوم الجمركية الأميركية
تعتمد ثقة الصين في الحفاظ على رباطة جأشها ومواجهة السياسات التنمرية الأميركية على الركائز المتمثّلة في مخزون السياسات الكافي، والقاعدة الاقتصادية المتينة، وانفتاحها الواسع النطاق.
-
الرسوم الجمركية المرتفعة من شأنها أن تدفع معدّل التضخّم في واشنطن إلى الارتفاع.
مواجِهةً تصعيد واشنطن المتكرّر للرسوم الجمركية على الصين مؤخّراً، ردّت الصين على ذلك بحزم وأطلقت سلسلة من الإجراءات المضادة، ففي 2 نيسان/أبريل الجاري، وبعد إعلان الولايات المتحدة عن فرض ما يسمّى بالتعريفة الجمركية المتبادلة البالغة نسبتها 34% على الواردات الصينية، أعلنت الصين رسمياً فرض رسوم جمركية بالنسبة نفسها 34% على الواردات الأميركية، لاحقاً قامت الولايات المتحدة بزيادة التعريفات الجمركية إلى 84% وثمّ إلى 125%. وردّت الصين بمعدلات التعريفات الجمركية نفسها، مظهرة بذلك تصميمها الاستراتيجي المذهل ومسؤوليتها كقوة عظمى في الحفاظ على النظام الاقتصادي الدولي.
وفي هذا السياق، خالف اقتصاد الصين كلّ التوقّعات وحقّق نمواً في الناتج المحلي خلال الربع الأول لعام 2025 بنسبة 5.4%، بحسب ما أعلنه المكتب الوطني الصيني للإحصاء، مشيراً إلى التحسّن على المدى الطويل رغم ضغط الرسوم الجمركية الأميركية المفروضة عليها.
الصين صاحبة اقتصاد عملاق ذي حجم هائل، قد أظهرت مرونة قوية في مواجهة صدمات التنمّر الجمركي الأميركي. ومع خوضها حرباً تجارية استمرت ثماني سنوات مع الولايات المتحدة، قد اكتسبت خبرات ثرية في إدارة مثل هذه الصراعات.
وقد قال الرئيس الصيني شي جين بينغ: "الاقتصاد الصيني بحر وليس بركة، العواصف قد تقلب بركة لكنها لا يمكن أن تقلب بحراً أبداً". قال ذلك في كلمته في حفل افتتاح معرض الصين الدولي الأول للاستيراد في 5 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2018، العام الذي شنّ فيه الرئيس الأميركي حينذاك دونالد ترامب الحرب التجارية على الصين.
في السنوات الأخيرة، عملت الصين بنشاط على بناء سوق متنوّعة، مما أدّى إلى تراجع اعتمادها على السوق الأميركية بشكل ملحوظ، حيث انخفضت حصة الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة من إجمالي صادراتها من 19.2% عام 2018 إلى 14.7% عام 2024.
وبحسب بيانات عام 2024، بلغ إجمالي الناتج المحلي الصيني 134.9 تريليون يوان، بينما لم تتجاوز قيمة الصادرات إلى الولايات المتحدة 524.656 مليار دولار (ما يعادل 3.8 تريليونات يوان)، ممّا يشكّل نحو 2.8% فقط من إجمالي الناتج المحلي. لذا إنّ التراجع في الصادرات للولايات المتحدة لن يُحدث تأثيراً جذرياً على الاقتصاد الصيني الكلي، خاصة مع الإمكانات الهائلة للتعاون الاقتصادي مع الأسواق الناشئة التي أصبحت ركيزة أساسية لاستقرار التجارة الخارجية الصينية.
الآن تُعدّ الصين شريكاً تجارياً رئيسياً لأكثر من 150 دولة ومنطقة. منذ عام 2018، ارتفعت حصة صادراتها إلى دول آسيان من 12.8% إلى 16.4%، فيما قفزت نسبة الصادرات إلى الدول المشاركة في بناء الحزام والطريق من 38.7% إلى 47.8%، مع الحفاظ على زخم نمو سريع.
وفي الوقت ذاته، تعمل الصين على مواجهة صدمات الرسوم الجمركية عبر تنويع علاقاتها التجارية وتعزيز التعاون الإقليمي. فخلال الفترة الأخيرة، شهدت بكين زيارات مكثّفة لقادة الاتحاد الأوروبي وكبار المسؤولين وممثّلي التجارة، بمن في ذلك رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، سعياً لتعزيز التعاون العملي مع الصين. كما ناقشت الصين واليابان وكوريا الجنوبية مؤخراً تسريع مفاوضات اتفاقية التجارة الحرّة الثلاثية لدفع التعاون الإقليمي ومتعدّد الأطراف. وفي الفترة من 14 إلى 18 نيسان/أبريل، يقوم الرئيس الصيني شي جين بينغ بزيارة دولة إلى فيتنام وماليزيا وكمبوديا، علماً أنها الزيارة الأولى له هذا العام، وتحمل أهمية استراتيجية في تعزيز العلاقات مع هذه الدول وتطوير التعاملات الصينية-الآسيان بشكل شامل.
بلا شكّ ستدفع السياسات الجمركية الأميركية إلى تعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي وتسريع التنسيق الداخلي في المنطقة، حيث ستتعاون الصين مع الاقتصادات المتشاركة معها في الرؤى للحفاظ على نظام تجاري عالمي مستقرّ وعادل.
على الصعيد الداخلي، عزّزت الصين في السنوات الأخيرة ترتيباتها للسوق المحلية وسهّلت دوران الاقتصاد الداخلي، مما أدّى إلى تعزيز ملحوظ في القوة الداخلية للاقتصاد. فالصين بلد يضمّ 1.4 مليار نسمة، بينهم 400 مليون فرد من الطبقة المتوسطة، ويتمتع بسوق محلية شاسعة. وفقاً للإحصاءات، من بين مئات الآلاف من الشركات الصينية ذات الأداء التصديري في عام 2024، كان ما يقرب من 85% منها تنشط في الوقت ذاته في المبيعات المحلية، حيث شكّلت المبيعات الداخلية ما يقرب من 75% من إجمالي الإيرادات. تعمل الصين على تسريع تحوّل سياسة "تحويل التوجّه من التصدير إلى الاستهلاك المحلي"، مع تعزيز سياسات توسيع الطلب الداخلي التي بدأت تظهر آثارها الاستيعابية في السوق.
في عام 2024، حقّقت سياسة "استبدال القديم بالجديد" في مجالات السيارات والأجهزة المنزلية والديكورات مبيعات تجاوزت 1.3 تريليون يوان (نحو 178 مليار دولار أميركي). أما هذا العام، فسيوفّر إصدار السندات الحكومية الخاصة طويلة الأجل بمبلغ 300 مليار يوان (نحو 41 مليار دولار أميركي) دعماً استثنائياً لتحفيز السوق الاستهلاكية، مما سيسهم في تحقيق زيادة استهلاكية تقدّر بتريليونات اليوانات. تلتزم الصين بجعل توسيع الطلب الداخلي استراتيجية طويلة المدى، وتحويل الاستهلاك إلى محرّك رئيسي وحصن منيع للنمو الاقتصادي، مستفيدة من ميزة السوق الضخمة لتقليل الاعتماد على الأسواق الأميركية.
وإضافة إلى ذلك، السياسات المالية والنقدية المرنة تشكّل سنداً إضافياً: رفعت الصين للمرة الأولى هذا العام نسبة عجز الميزانية من حدود 3% أو أقلّ في السابق إلى نحو 4%، مما يعني توفّر موارد مالية إضافية قابلة للتوجيه لضمان تحسين مستوى المعيشة وتعزيز التنمية الصحية للاقتصاد والمجتمع. يأتي هذا التوسّع في الطلب المحلي كدرع واقٍ ضد التقلّبات الخارجية. وفي المستقبل، تحتفظ الصين بمساحة كافية لتفعيل أدوات السياسة النقدية مثل خفض نسبة الاحتياطي النقدي وأسعار الفائدة وفقاً لمتطلّبات الوضع، مع استعدادها لإطلاقها في أيّ وقت. كما أكدت السياسة المالية تعزيز حدّة الإنفاق وتسريع وتيرته، مع إمكانية التوسّع في العجز المالي والسندات الخاصة وسندات الحكومة الخاصة بحسب الضرورة.
سواء عبر السياسة المالية أو النقدية، تمتلك الصين هامشاً مرناً للتكيّف مع التأثيرات الخارجية السلبية، ممّا يعزّز مناعة الاقتصاد الكلي.
إلى جانب ذلك، تواصل التكنولوجيا تعزيز قوة الصين الدافعة. تمسّكت الصين بتطوير "قوى إنتاجية جديدة النوعية" كمصدر جديد رئيسي للتنمية، مع التركيز على استخدام الابتكار التكنولوجي لدفع الابتكار الصناعي. وقد حقّقت اختراقات متعدّدة في مجالات مثل الدوائر المتكاملة والذكاء الاصطناعي والروبوتات البشرية، مما يعكس الحيوية الكبيرة للابتكار العلمي الصيني. إنّ الممارسات القمعية ومحاولات الخنق التكنولوجي لن تؤدي إلا إلى تسريع وتيرة تحقيق الصين للاكتفاء الذاتي في التقنيات الأساسية بالمجالات الحيوية.
في المقابل، تواجه واشنطن معضلة اقتصادية، حيث تعتمد الولايات المتحدة اعتماداً كبيراً على المنتجات الصينية في العديد من القطاعات. فاليوم، لا تقتصر هذه التبعيّة على السلع الاستهلاكية فحسب، بل تمتد إلى المنتجات الاستثمارية والوسيطة، حيث تتجاوز نسبة الاعتماد على الصين 50% في بعض الفئات، مع صعوبة إيجاد بدائل دولية قصيرة الأجل. وهذا ما يفسّر إعفاء ترامب الرسوم الجمركية على الهواتف الذكية والموجّهات وأجهزة الكمبيوتر المحمولة بعد أيام فقط من إعلانها.
وعلاوة على ذلك، فإنّ الرسوم الجمركية المرتفعة من شأنها أن تدفع معدّل التضخّم في الولايات المتحدة إلى الارتفاع بشكل أكبر وتؤثّر على آفاق النمو في الولايات المتحدة. إذا تمّ استغلال التشديد النقدي للسيطرة على التضخّم، فإنّ الركود الاقتصادي سوف يتفاقم. الولايات المتحدة وقعت في مأزق.
وشهدت التوقّعات الدولية للاقتصاد الصيني تحسّناً ملحوظاً منذ بداية هذا العام، حيث رفعت منظّمات دولية مثل منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) توقّعاتها لنمو الناتج المحلي الصيني بنسبة 0.1 نقطة مئوية، بينما خفضت توقّعاتها للنمو في الولايات المتحدة بنسبة 0.2 نقطة مئوية، وتعتبر "اليقين" في الصين ملاذاً آمناً للتحوّط ضدّ "عدم اليقين" في الولايات المتحدة.
تعتمد ثقة الصين في الحفاظ على رباطة جأشها ومواجهة السياسات التنمرية الأميركية على الركائز المتمثّلة في مخزون السياسات الكافي، والقاعدة الاقتصادية المتينة، وانفتاحها الواسع النطاق. رغم التزام الصين بدورها كدولة مسؤولة مستعدّة للحوار لحلّ الخلافات حال تصحيح واشنطن لأخطائها، إلا أنها ترفض بشكل قاطع "ابتزاز التعريفات الجمركية"، مؤكّدة أنّ الحوار المتكافئ بين القوى العظمى هو السبيل الوحيد لحلّ الأزمات.