نتنياهو في الأمم المتحدة... وأميركا وحدها تصفق

يواجه الكيان الصهيوني أزمة داخلية عميقة، تفاقمت مع وجود حكومة يمينية متطرفة تتبنى مواقف متصلبة، وترفض تقديم أي تنازلات.

  • الاعتراف الغربي بدولة فلسطين..
    الاعتراف الغربي بدولة فلسطين..

بينما كان نتنياهو يستعد لإلقاء خطابه في الأمم المتحدة، غادرت القاعة وفود 77 دولة، بينها وفود الدول العربية الأربع المحيطة بـ"إسرائيل"، وهو ما جعل هذا الخطاب محط اهتمام الصحافة الدولية، لا بسبب محتواه، بل نتيجة العدد الكبير من الانسحابات التي رافقته، والتي عكست حالة العزلة التي باتت تعيشها "إسرائيل". 

خلال كلمته، كانت قاعة الجمعية العامة شبه فارغة، بعد انسحاب وفود دول إسلامية وأفريقية وأميركية لاتينية وحتى أوروبية، في حين اكتفى العشرات من أنصار نتنياهو بالتصفيق له من الشرفة.

بينما كانت وفود العالم تغادر كانت أميركا وحدها تصفق لنتنياهو، في مشهد يلخص العزلة الأخلاقية للكيان وداعميه، إذ انبرى ترامب للدفاع عنه متهماً المنادين بالاعتراف بالدولة الفلسطينية أنهم يبدون وكأنهم يدعمون الإرهاب، عبر مكافأتهم حركة حماس على ما أقدمت عليه. 

تمثيل دور الضحية والخوف من معاداة السامية هو أهم ما فقدته "إسرائيل" في حربها على قطاع غزة، فبات العالم يتحدث عن مجازر الكيان وجرائمه، بمعنى أن العالم استطاع التحرر من عقدة الذنب المزعومة تجاه اليهود.

انحسار الدعم الأوروبي للكيان بات واضحاً، بل تحوّل إلى حالة من الهجوم الدبلوماسي عليه، بالتزامن مع ما تقوم به العديد من دول أميركا اللاتينية في سعيها لمحاصرته وتعريته أمام المجتمع الدولي.

ما تريده الولايات المتحدة هو الحل، بغض النظر عن طبيعة هذا الحل ولمصلحة من سيكون، فهي ليست معنية بالضغط على طرف دون آخر، إلا إذا رأت أن احتمالات نجاحها في ممارسة مثل هذا الضغط سوف تكون كبيرة. 

الدول العربية معنية بالتكاتف وتقديم موقف موحد قادر على مواجهة الضغوط الأميركية، وتحويلها إلى الضغط على "إسرائيل" بوصفها المسؤول عما يجري من حروب كارثية في المنطقة كلها.

ما قام به الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو خلال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة سيخلده التاريخ، وسيضعه في مستوى العظماء من قادة العالم من أمثال فيدال كاسترو وشي غيفارا  وغيرهما.

التبعات الاقتصادية للحرب على غزة مستمرة، ولم يعد  كيان الاحتلال قادراً على الاستمرار فيها. وهنا، يكفي أن نشير إلى أن ما يحصل عليه جنود الاحتياط منذ بداية الحرب على غزة وصل إلى ثمانية آلاف دولار شهرياً، أي ضعف متوسط الراتب في الكيان الصهيوني وخمسة أضعاف الحد الأدنى للأجور، بالإضافة إلى مكافآت سخية وخدمات اجتماعية مجانية، وهو ما يشكل عبئاً كبيراً على الاقتصاد الإسرائيلي.

خطاب مكرر وفارغ..

رأت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أن خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كان "مكرراً وفارغاً من أي رسائل جديدة"، معتبرة أنه أثبت مجدداً "أن نتنياهو لا يملك ما يقدمه للعالم، وأنه يعتمد بشكل مطلق على الرئيس ترامب.

سعى نتنياهو لأن يكون خطابه موجهاً إلى الجمهور الصهيوني أيضاً، لتعزيز الشعور بالأمن والعدالة، ولجمع الدعم للحكومة أمام الانتقادات الداخلية والخارجية، مع التركيز على أن الكيان الصهيوني في موضع دفاع عن نفسه، وأن ما يقوم به يعد "أمراً لا مفر منه".

تبنى نتنياهو موقفًا يدافع فيه عن سياسات حكومته المتشددة، خصوصًا في ما يتعلق بغزة، حيث أعرب عن إصراره على استكمال العمليات العسكرية ضد حماس، مشيرًا إلى ضرورة "إنهاء المهمة"، ما يعكس تصميمه على المضي قدمًا بغض النظر عن الضغوط الدولية.

كما اتهم دول الغرب والدول التي اعترفت بالقضية الفلسطينية بأنها تشجع الإرهاب، وحمّل المعارضين الدوليين مسؤولية التهاون أو التواطؤ، كما وصف بعض الانتقادات الموجهة إلى حكومته بأنها معادية للسامية، أو محاولات لنشر الأكاذيب ضد كيانه المزعوم.

ركز نتنياهو على قضية الرهائن مؤكداً أن حكومته ملتزمة بإعادتهم، وأن العمليات مستمرة حتى يُفرج عنهم جميعاً، وهي محاولة لإضافة البعد الإنساني في الخطاب من أجل ممارسة الضغط على الرأي العام الدولي. 

اعتمد نتنياهو على التصوير الرمزي والمرئي كأداة خطابية، من خلال استخدام الخرائط المسماة (اللعنة) لعرض التهديد الإيراني، كما استخدم الرموز وغيرها من العناصر البصرية، لإضفاء طابع إقناعي بصري على الخطاب، حاول من خلاله خلق حالة من الخوف من "المشروع الإيراني" أو التأثير الإقليمي المعادي. 

أبرز ما أثار الجدل كان "الباركود" المثبت على ياقة بدلته، والذي يقود إلى مسح صور جثث إسرائيليين قتلوا، بمعنى أنه حوّل جسده إلى "معرض فظائع" أمام العالم.

الإصرار على الحق في الدفاع عن النفس، والرفض القاطع للحلول التوفيقية يجسدان تأكيداً واضحاً على الاستمرار حتى تحقيق ما يُعرف بـ "النصر الكامل".  وهي رسالة تتضمن موقفاً صارماً يدعو إلى رفض أي اتفاق لوقف إطلاق النار، أو أي مشاركة لحركة حماس في حكومة مستقبلية من دون أن تقوم الحركة بالاستسلام الكامل وتسليم  أسلحتها كافة.

عمل نتنياهو على إعادة توجيه الانتباه إلى التهديدات "الإقليمية المشتركة"، مثل: حماس، حزب الله، والتهديد النووي الإيراني، حيث تم استخدام هذه المصطلحات في الخطاب كخطر لا يواجه الكيان الصهيوني وحده، بل يُهدد المنطقة بأسرها، فالخطاب يسعى لحشد وتجميع تحالف معنوي ضد هذه التهديدات، بما يخدم حاجة الكيان دبلوماسياً إلى إعادة استقطاب الدعم الإقليمي والدولي المتراجع. 

اتسم الخطاب بغياب أو ضعف الطرح التفصيلي للحلول السياسية، حيث يلاحظ أنه ورغم الإشارة العارضة إلى مفهوم السلام في بعض المواضع، افتقار النص إلى تقديم رؤية سياسية واضحة تحمل تفاصيل محددة وقادرة على نيل قبول واسع كإطار لحل الصراع الفلسطيني-الصهيوني. لم يتم التطرق بعمق إلى نماذج مثل حل الدولتين، حقوق الشعب الفلسطيني، أو ضرورة وقف عملية الاستيطان، وهي عناصر أساسية لأي مقاربة واقعية وشاملة. هذا القصور في الطرح يجعل الخطاب يبدو من منظور خارجي أقرب إلى موقف دفاعي منه إلى مشروع سياسي منظم وقابل للتنفيذ.

في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن خطاب نتنياهو يسهم في زيادة التوتر مع المؤسسات الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية والأمم المتحدة، وقد ينعكس ذلك على مواقف الدول الغربية تجاه قضايا محورية كمسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، أو اتخاذ قرارات بشأن فرض عقوبات أو تبني مواقف دبلوماسية معارضة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لمثل هذا الخطاب أن يؤدي إلى تعزيز حالة العزلة الدولية، بخاصة إذا لم تقدم الحكومة الإسرائيلية خطوات عملية تتسم بالطابع التفاوضي أو تركز على البعد الإنساني بشكل ملموس.

الاعتراف الغربي بدولة فلسطين..

في سياق قرار بعض الدول الغربية الاعتراف المفاجئ بالدولة الفلسطينية، وربطه مباشرة بحل الدولتين، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:

الاعتراف الغربي لا يجعل فلسطين دولة مستقلة على أرض الواقع ما دام الاحتلال مستمراً، لكنه يُسهم في تعزيز الشرعية الدولية ويُضيف إلى الفلسطينيين نفوذًا أكبر داخل المؤسسات الدولية.

تعاني دول الغرب، وبخاصة أوروبا، من ضغط شعبي وإعلامي غير مسبوق نتيجة التكلفة الإنسانية للعدوان الوحشي على غزة. هذا الواقع جعل الدعم غير المشروط للموقف الصهيوني تحديًا مكلفًا سياسيًا وأخلاقيًا للحكومات الغربية أمام شعوبها. في هذا السياق، يبدو أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يأتي كخطوة تهدف إلى تهدئة غضب الرأي العام وإبراز صورة من التوازن.

القرار لا يعكس بالضرورة تحولًا جذريًا في الموقف الغربي تجاه الصراع، وإنما يُشكل بشكل أكبر أداة ضغط تُمارس على الكيان الصهيوني بهدف دفعه نحو التفاوض أو قبول صيغة حل الدولتين. يأتي ذلك بعد أن تخطت حكومته المتطرفة العديد من الخطوط الحمر، مثل توسيع الاستيطان، تهويد القدس، والرفض القاطع لأي مسار يؤدي إلى الحل السلمي.

الغرب يسعى لإحياء مسار سياسي متوقف منذ سنوات، إذ يبدو أن الخيار الواقعي الآخر هو استمرار حرب طويلة الأمد تهدد مصالحه في الشرق الأوسط. هذا يأتي في سياق تغيرات جيواستراتيجية ملحوظة، مثل تراجع الهيمنة الأميركية وبروز أدوار متزايدة لكل من الصين وروسيا.

يُحتمل أن يكون هذا الاعتراف جزءًا من استراتيجية غربية أوسع تهدف إلى إعادة التموضع في سياق العلاقات مع العالمين العربي والإسلامي، وذلك بهدف الحد من توسع النفوذ الصيني والروسي في المنطقة.

حملة الاعتراف الأوروبي تهدف بشكل أساسي إلى إيصال رسالة واضحة إلى واشنطن مفادها أن أوروبا لم تعد مستعدة للامتثال الكامل لأي سياسات أميركية منحازة إلى الكيان الصهيوني. يأتي ذلك خصوصًا بعد تراجع الثقة الأوروبية في قدرة الولايات المتحدة على لعب دور الضامن للاستقرار.

يواجه الكيان الصهيوني حالياً أزمة داخلية عميقة، تفاقمت مع وجود حكومة يمينية متطرفة تتبنى مواقف متصلبة وترفض تقديم أي تنازلات. في هذا السياق، يشكل الاعتراف الغربي رسالة واضحة للنخب الداخلية بأن نهج نتنياهو المستمر قد يدفع نحو عزلة الكيان المزعوم، حتى عن شركائه التقليديين.

يمكن النظر إلى هذا التوجه الجديد كفرصة لإعادة تشكيل "العقد الضمني" بين الغرب والكيان الصهيوني، حيث يمكن للدعم العسكري والأمني أن يبقى مستمراً، بشرط الالتزام بحد أدنى من التقدم على المستوى السياسي.

يمكن أن يُعدّ الاعتراف الغربي أداة ضغط ضمنية على الفلسطينيين للدفع نحو استئناف المفاوضات وفق شروط قد لا تتحقق فيها مبادئ العدالة والإنصاف بشكل كاف.

خطاب نتنياهو لم يكن مقنعاً في محتواه، والذي استمر 41 دقيقة من الكذب وتزييف الحقائق.  واستهدف جمهورين أساسيين: القاعدة اليمينية داخل الكيان التي ستُنتج مقاطع دعائية تُظهر بث خطابه في غزة، والجمهور الأميركي وعلى رأسه الرئيس ترامب، بمعنى أنه لم يقدم أي جديد، ولا يملك خطاباً للحوار مع العالم.