هل استغلّ الأوروبيون أميركا أم العكس؟
دفعت الولايات المتحدة الأموال الطائلة، وأسهمت في نهضة أوروبا، لكن ذلك يعدّ من الأكلاف التي يفترض بالدول التي تطمح إلى الزعامة العالمية دفعها لأجل تحقيق القبول بالقيادة العالمية.
-
يعد الاستثمار الذي قامت به واشنطن في أوروبا إحدى أنجح مبادرات السياسة الخارجية الأميركية.
في تصريحات مثيرة للجدل، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إن أوروبا عاملت الأميركيين معاملة سيئة. وخلال لقاء في البيت الأبيض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قال ترامب "إن الاتحاد الأوروبي سيئ للغاية معنا، إنهم لا يأخذون سياراتنا، ولا يأخذون منتجاتنا الزراعية، ومع ذلك، يرسلون ملايين السيارات سنوياً لنا، مرسيدس وBMW، ونحن لا يمكننا بيع سيارة أميركية واحدة إلى أوروبا. لن يكون الأمر كذلك بعد الآن، لن ندع ذلك يستمر".
وحين سأله المراسل عمّا إذا كان عرض الاتحاد الأوروبي إعفاءً كاملاً من التعريفات الجمركية على السيارات والسلع الصناعية، كافياً، أجاب ترامب: "لا، لا يكفي، تم إنشاء الاتحاد الأوروبي لخداع الولايات المتحدة واستغلالنا، ويجب أن يدفعوا عن الاستغلال الحاضر والماضي".
المساعدات الأميركية لأوروبا تاريخياً
نبدأ مع خطة مارشال، والتي تُعرف رسمياً باسم "برنامج الإنعاش الأوروبي"، وقد طبّقتها الولايات المتحدة الأميركية في أوروبا الغربية لمساعدتها على النهوض بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تمّ ضخ مليارات الدولارات في البنى التحتية والتعافي الاقتصادي.
عسكرياً، أنشأت الولايات المتحدة وحلفاؤها حلف شمالي الأطلسي، لتأمين الحماية للأوروبيين، وكرادع ضد الاتحاد السوفياتي. وبالإضافة إلى دفع ما يقارب 75% من موازنة الحلف بمفردهم، نشر الأميركيون جنودهم في أوروبا في قواعد عسكرية في مختلف أنحاء القارة الغربية، ولاحقاً في أوروبا الشرقية. ويقدّر عدد الجنود حالياً بمئة ألف عسكري أميركي في أوروبا.
أما تجارياً، فأوروبا هي أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة؛ إذ يتبادل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أكثر من تريليون دولار من السلع والخدمات سنوياً، وتعدّ الشركات الأميركية من أكبر المستثمرين في أوروبا.
لكنّ ترامب يقول إن الأميركيين يخسرون تريليوناً و 900 مليار دولار في تجارتهم مع الاتحاد الأوروبي، في وقت يقدمون لهم الدعم العسكري والحماية في حلف "الناتو".
استفادة الأميركيين من أوروبا
دفعت الولايات المتحدة الأموال الطائلة، وأسهمت في نهضة أوروبا، لكن ذلك يعدّ من الأكلاف التي يفترض بالدول التي تطمح إلى الزعامة العالمية دفعها لأجل تحقيق القبول بالقيادة العالمية.
أدّت خطة مارشال إلى إنعاش الاقتصاد الأوروبي، لكنها جعلت الأسواق الأوروبية مفتوحة للأميركيين، وأسهمت في تعزيز مستوى الدخل الأوروبي لتحفيز الاستهلاك، هذا بالإضافة إلى حصولهم على عائدات ضخمة على استثمار خطة مارشال من خلال التجارة والاستثمار طويلي الأجل، ويمكن الإشارة هنا إلى ما قاله الرئيس الأميركي هاري ترومان، حين أكد أن المساعدات الأميركية في تحقيق ازدهار أوروبا ضرورية ليس فقط لشعوب أوروبا، بل أيضاً لصحة اقتصاد الولايات المتحدة.
وهكذا، وفي خضم الحرب الباردة، استطاع الأميركيون من خلال تحالفهم مع الأوروبيين بناء شبكة عالمية من القواعد العسكرية والتحالفات السياسية لمواجهة الاتحاد السوفياتي وردعه، بالإضافة إلى تعزيز تفوّقهم وهيمنتهم العالمية، وفرض الرأسمالية في الأسواق العالمية، وتحوّل الدولار إلى عملة احتياطية عالمية، بعدما حوّل نظام بريتون وودز (1944) الدولار الأميركي إلى عمود فقري للتجارة الدولية.
وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أسهم الأميركيون في إنشاء الاتحاد الأوروبي، لتعزيز قوتهم ونفوذهم العالمي، وحصلوا على "الشرعية" للهيمنة الأحادية العالمية عبر الأطر العالمية المتعددة الأطراف التي لعبت لصالح تكريس نفوذهم العالمي، خصوصاً في ظل توسع "الناتو" واستخدامه كأداة عسكرية للهيمنة الأميركية.
في النتيجة، لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في المساعدة على إعادة بناء أوروبا وتأمينها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ قدّمت للأوروبيين المساعدات الاقتصادية والحماية العسكرية، وأسهم الدعم الأميركي لأوروبا في تحقيق ازدهار واستقرار ونمو اقتصادي مطرد. لكن، في المقابل، حقق الأميركيون مكاسب استراتيجية واقتصادية وزعامة عالمية من وراء ذلك.
من الناحية الاستراتيجية، كان الاستثمار الذي قامت به الولايات المتحدة في أوروبا إحدى أنجح مبادرات السياسة الخارجية الأميركية في القرن العشرين، ولاحقاً في القرن الحادي والعشرين أيضاً حيث سار الأوروبيون وراء الأميركيين في مشاريعهم الخارجية، منها قضايا الشرق الأوسط، الحرب الأوكرانية، الثورات في القوقاز والبلقان، رفض التوسّع الصيني وغيرها.