أخلاقية الحرب في مواجهة الغرب
المتابع الغربي عموماً لا يتعنّى البحث في مصادر ما يرده من أخبار، فهو يتلقّف الأكاذيب الإسرائيلية بثقة تامّة.
المشكلة بيننا وبين الغرب قيمية. نعم ثمة عدم تكافؤ وتباين مخيف في هذه الحرب؛ لكن ليس على مستوى القدرات العسكرية والتقدم الصاروخي وامتلاك الردع، بقدر ما هو على مستوى القيم والمذهب الأخلاقي.
الإسرائيلي يكذب، يختلق لنفسه قبل العالم، صورة لنصر موهوم، ويمضي بمعنويات مرتفعة. يكذب الإسرائيلي ثم يصدّق كذبته، لعلمه بأنّ الروح العالية، وإن كانت من فراغ، من شأنها أن تحقّق نصراً في ساحة ما. يدّعي أمراً ما ليبرّر عدوانه ويشرعن إجرامه. مخازن سلاح تحت مبانٍ سكنية، مراكز لحماس أو حزب الله أو حرس الثورة. كلّ مرة، هناك سبب لمجازره وتخريبه، فلا يعتقد المجتمع الدولي بأنه جان، بل هو يخوض حرباً وجودية ضدّ كلّ ما يتهدّد كيانه من جماعات "إرهابية معادية للسامية".
حتى المستوطنون إذا خرجوا معترضين على الخيار العسكري، سارع إلى إقناعهم بأنها حربهم الوجودية. هنا، يتناغم الخطاب الشعبي مع خطاب السلطة المخادع، فترى المستوطنين كذلك يتحدّثون عن ضحاياهم الذين قتلتهم إيران من دون أيّ ذنب.
ولأنّ المتابع الغربي عموماً لا يتعنّى البحث في مصادر ما يرده من أخبار، فهو يتلقّف الأكاذيب الإسرائيلية بثقة تامّة. أحد السكان العرب في باريس ذكر لي مرةً بأنّ الفرنسي حين يقرأ خبراً يصدّقه من دون أيّ تشكيك. وغالباً ما يهرب من الصور المؤذية للعين كصور الضحايا والأشلاء ويعبرها من دون أيّ فضول لمعرفة المجريات. وهو يتابع إعلامه بطبيعة الحال، وليس الإعلام العربي. لعل هذا ما يفسّر عدوانية الإعلامي الإنكليزي الشهير بيرس مورغان في حلقته الأخيرة مع الناشط الإعلامي الإيراني، محمد مرندي، الذي كان ضيفاً في الحلقة من مكتبه في قناة برس في مبنى الإذاعة والتلفزيون الإيراني. وبينما مورغان يتكلّم من دون إفساح المجال لمرندي بالكلام، يتمّ تفجير أحد مباني مؤسسة الإذاعة الإيرانية.
وعلى الرغم من وضوح الملامح الوحشية للعدوان، وافتضاحها على مرأى من العالم، سيما بعد صمود الإعلامية سحر إمامي واستكمالها للبثّ المباشر أثناء العدوان، إلا أنّ مورغان كان قد جهّز قائمةً لما سماه بــ "جرائم النظام في إيران" وكان يحصيها من دون توقّف بعدما وصفه مرندي بالجبان لأنه لا يجري أيّ حوار من داخل إيران، بينما مرندي لم يتوقّف عن مشاركته في الحلقة بالرغم من تهديدات الإسرائيلي.
اللافت أنّ قائمة مورغان بدت كلّها عناوين جمعها من أحدهم أو من "تشات جي بي تي" أو من زميلة له تعمل خلف الكواليس وزوّدته بالورقة بعدما احتد الحوار مع المرندي. عناوين عامّة رنّانة لترهيب المواطن الأميركي "المرهف" مثل "الحجاب الإلزامي، وقمع التظاهرات، وسجن بعض النشطاء وعشرات العناوين الأخرى"، مما راح يدلي به على الهواء مباشرةً، مع علمه أنّ المشاهد لن يتحقّق من صحة العناوين، ولا من وقائعها الحقيقية، لأنه في النهاية مشاهد "غربي" يتلقّى ويتقبّل أيّ معلومة، فهو ليس حريصاً ولا غيوراً على السردية الإيرانية، مهما كانت أصيلة.
هكذا يبدو أنّ الغرب، يزدري الحقائق، لأنه امتهن التحريف وصياغة السرديات المصطنعة الخاصة به. حتى إذا ارتكب مجزرة بحقّ الغزاويين، أقنع شعبه بأنّ "حماس" هي من قتلتهم لأنها استخدمتهم دروعاً بشرية!
وتأتيك، في الإطار نفسه، مشاهد بكاء الإسرائيليين، وهروبهم الجماعي إلى الملاجئ، ليكون صورة مثيرة للتعاطف العالمي، ممزوجاً بصورة الحكومة الكفوءة التي جهّزت للمستوطنين ملاجئ آمنة. بينما هروب سكان طهران وهم يخلون العاصمة بعد التهديدات، يصوّر على أنه نتيجة لسياسات النظام الذي دعا نتنياهو الشعب إلى الانقلاب عليه، كي يهبهم حريتهم عربون وفاء.
أما على المقلب الإيراني، وجبهة المقاومة عموماً، فيبقى الطرف الأخلاقي حتى في ذروة احتدام الحرب. فهو الطرف الذي لا يبدأ الحرب، ويتحاشى استهداف المدنيين قدر الإمكان، ويمتنع عن صنع سلاح نووي تفادياً للدمار الشامل، ويتلو القرآن والأذكار قبل إرسال الصواريخ لتكون مسدّدة باتجاه الأهداف بتوفيق من الله. وهو الطرف الذي يوافق على الجلوس إلى طاولة المفاوضات متشبثاً بآخر وميض أمل بعزائم الاستكبار، علّ العالم يكون أكثر أمناً.
لكنّ الطاولة دائماً تنقلب عليه، بتهمة واحدة، هي النهوض. نحن مهددون من أعتى الطغاة بأرواحنا ووجودنا لأننا قرّرنا النهوض من تحت براثن الاستكبار العالمي، الذي إن ترك على هواه، ابتلع العالم بقضمة واحدة. فهل يفهم العالم الصاعد المتمثّل بالصين وروسيا اليوم هذه الحقيقة؟
أما الاستلاب العربي، فقضية أخرى في مسار هذا الصراع، موازية للكذب الإسرائيلي. فكلما تمادى الكاذب في كذبته، التزم حكّام العرب الصمت، لأنّ الخضوع للطاغية أسهل عندهم من خوض حروب لنصرة المستضعفين.
أمام هذا الواقع، أيّ أمل في تغيير التوازنات العالمية، والحافظ على قوة ردع إقليمية في ظلّ وجود غدة سرطانية، تتفشّى وتسمّم الجسد العربي والإسلامي، بين الحين والآخر؛ فتارة تفتك بالعراق، وتارة تقسّم سوريا، ثم تحاول إنهاء "حزب الله"، والقضاء على قدرات إيران. فهل يفهم العرب أنّ الأوان قد حان للاصطفاف معاً في جبهة عربية إسلامية واحدة؟ هل تلهمهم البطولات الإيرانية اليوم، لكي يخوضوا 6 أكتوبر مرةً أخرى من دون أن يسمحوا لكامب ديفيد جديدة أن تنثر جهودهم هباء؟ هل نرى وحدة عربية إسلامية جديدة، بعد أشواط التضعيف التي أغرقتنا بها إرادة الاحتلال؟
سننتظر. وقد قالها المواطن المصري حين ألصق ورقة على مخبزه في الإسكندرية صبيحة 6 أكتوبر 73: "سنخبز معاً بعد النصر".