الأرز في مرآة نزار ضاهر: تشريح الجمال والوجع
يمكن قراءة المعرض كسردية علاجية للمجتمع اللبناني الذي يعاني صدمات متتالية. تحويل الألم إلى جمال، والجرح إلى لوحة، هو مقاومة بالفرشاة.
-
(نزار ضاهر)
في ذكرى استقلالٍ غير ناجز وفي ظلّ أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، وتحت وطأة الاعتداءات الإسرائيلية والتهديدات المستمرة بالويل والثبور وعظائم الأمور، يطلّ الفنان نزار ضاهر بمعرضه "لبنان الأرز" كمن يقاوم بالجمال محاولات قتل الجمال.
إذ ليس المعرض مجرّد احتفاء بالرمز، بل هو استجوابٌ للعلاقة العضوية بين الفنان وتراب وطنه، بين الإنسان والرمز المتجاوز للزمن.
تتحوّل اللوحات الزيتية عند ضاهر من مجرّد مناظر طبيعية إلى نصوص بصرية تحمل إيقاع القصيدة. الأرز هنا ليس شاهداً صامتاً على التاريخ، بل راوٍ يحكي بلسان الألوان حكاية أمّة تبحث عن معناها في زمن الضياع. الفنان لا يقدّم شجر الأرز كموضوع، بل كمخاطب، كشريك في حوار وجودي. كلّ فرشاة هي كسكين تشريح تفضي بأسرار الجمال والألم.
يمارس ضاهر تمرّداً لونياً يصل إلى درجة الانزياح الفني المحسوب. الأرز الأحمر ليس تشويهاً للرمز، بل هو تحويل للجرح الوطني إلى زهرة تتفتّح على جدار اليأس. هذا الانزياح من الواقعية إلى التعبيرية الرمزية يشكّل صدمة بصرية توقظ المتلقّي من سبات التلقّي المألوف؛ فالألوان هنا كأصوات في سيمفونية بصرية تعزف على أوتار الذاكرة الجمعية.
وهكذا، بعد أن شغَفَ نزار ضاهر بقريته وسهل البقاع، وأسبغَ على سنابل قمحه حنيناً، وعلى جنوبه وزيتونه روحاً، ها هو يُكمل دورته المقدّسة مع الجغرافيا اللبنانية ليحطَّ رحاله عند الأرز.
في هذه المحطة الأخيرة من ترحاله الفني بين رموز الوطن، لا يكتفي ضاهر برسم الشجرة، بل يغوص في أغوارها وجودياً ليرسّخ علاقته الحميمة مع الأرض في أعمق تجلّياتها. فالأرز ليس مجرّد إضافة إلى سلسلة مواضيعه، بل هو الخاتمة التي تمنح المشروع كلّه معناه: تاجٌ يعلو على رأس الوطن، وجذورٌ تضرب في أعماق هوية الفنان. في "لبنان الأرز"، يتحوّل الحب الشخصي للأرض إلى حبّ جمعي، والعلاقة الحميمة مع التراب إلى عهد مع التاريخ والأسطورة.
كأنّ الفنان يحفر في طبقات الذاكرة الجينية للشعب اللبناني، فيستعيد البعد الأسطوري للأرز في الميثولوجيا الفينيقية والكنعانية. الأرز المتعالي نحو السماء ليس مجرّد شجرة، بل هو سُلّم بين الأرض والسماء، بين الإنسان والإله. هذا الارتفاع ليس مكانياً فحسب، بل هو سمو أخلاقي، وشموخ روحي.
ثمّة تقاطعات عميقة بين جسد الشجرة وجسد الوطن في لوحات ضاهر. الجذور الضاربة في الأرض هي كذاكرة الشعب الراسخة رغم العواصف، والفروع الممتدة هي كأحلام اللبنانيين التي تتجاوز حدود الجغرافيا. الندوب على جذع الشجرة هي كندوب التاريخ على جسد الوطن، لكنها تتحوّل عند ضاهر إلى زخارف جمالية.
يقدّم المعرض نفسه كغابة رموز تنتظر القارئ ليضلّ فيها ويجد نفسه. كلّ لوحة هي محطة في رحلة الاكتشاف الذاتي والجماعي. الضياع في هذه الغابة الفنية ليس إخفاقاً، بل شرطاً للوصول إلى المعنى. الفنان هنا كمن يلملم شتات وطن بين طيّات لوحاته.
يمكن قراءة المعرض كسردية علاجية للمجتمع اللبناني الذي يعاني صدمات متتالية. تحويل الألم إلى جمال، والجرح إلى لوحة، هو مقاومة بالفرشاة. الألوان كأنسجة حيّة تحمل ذاكرة الأرض وعبق التاريخ، تتحوّل إلى ضمادات لجروح وطن نازف.
معرض نزار ضاهر "لبنان الأرز" هو أكثر من معرض فني عابر، إنه بيان وجودي في زمن العدم، وشهادة أنّ الجمال ينتصر على القبح، وأنّ الحب أقوى من الكراهية. الفنان هنا لا يرسم الشجر، بل يزرع الأمل في تربة اليأس، ويبني من الألوان عالماً لا يغيب عنه جمال الوطن.
وكما قال الدكتور سهيل مطر في الكتيّب المرافق للمعرض: "كم أنت بعلبكي في شمخة الرأس". نزار ضاهر في هذا المعرض لا يحمل روعة بعلبك الأثرية فحسب، بل يحمل حكمتها الأزليّة: أنّ الجمال خلود، وأنّ الإنسان يبقى شامخاً كالأعمدة الستة حتى لو تداعت حوله الأقواس والأسقف.
* يستمر المعرض حتى 8 كانون الأول/ديسمبر المقبل في "مايا آرت سبيس" في وسط بيروت.