تاريخ العراق السياسي في رواية "الزعيم"

استطاع بدر بأسلوبه السردي أن يضبط فوضى الأحداث وتشتّت الوقائع وتأثير التدخّلات الأجنبية التي عصفت بالعراق.

  • الإعدام في غرفة الموسيقى في رواية الزعيم لعلي بدر
    الإعدام في غرفة الموسيقى في رواية الزعيم لعلي بدر

كان العراق فكرة في رحم خرائط الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، قبل أن يُولد على يد اتفاقية "سايكس ـــــ بيكو" قابلة الشرق الأوسط. كذلك كانت رواية: (الزعيم: خرائط وأسلحة لعلي بدر، الصادرة عن دار المدى عام 2024) مجرّد سؤال وُجِّه إلى الراوي من قبل المستعرِب بيتر صلاغليت، صاحب كتاب: (من الثورة إلى الديكتاتورية ـــــ العراق منذ عام 1958، الذي كتبه مع ماريون صلاغليت، زوجة الضابط العراقي عمر فاروق الأوقاتي سابقاً، الذي عُذّب وقُتل بعد انقلاب شباط/ فبراير عام 1963 بعدما التقاه في مؤتمر عالمي لدراسات الشرق الأوسط قائلاً: "لماذا لا تكتب رواية عن الزعيم عبد الكريم قاسم؟". 

هاتان الإشارتان الرمزيتان، الحمّالتان للأوجه، أوردهما بدر في سرده لفهم الآلية التاريخية التي تشكّل بها العراق، وفي الوقت نفسه إدراك الكيفيّة التي شكّل بها معمار روايته. لم يرد الراوي بجواب على المستعرِب الذي كان قد تزوّج ماريون بعد هروبها من العراق، وقد ظهرت باكية بعد شهور على الانقلاب على الزعيم على تلفزيون ألمانيا الشرقية تندب موت زوجهاـ لكنّ المستعرِب استتبع كلامه وقال للراوي: (من يكشف عن هذه المرحلة ـــــ أي فترة حكم عبد الكريم قاسم ـــــ سيعرف جيداً كنه هذه البلاد). 

إنّ ما تضمره كلمات المستعرِب من معانٍ يمكن إيجازها بأنّ العراق كان، ولا يزال، مجرّد مسرح للتجاذبات الخارجية، حيث كانت ولادته وتحوّلاته العديدة صناعة خارجية: من الملكية إلى الجمهورية، التي صدحت بكلمتها المذيعة عربية توفيق من إذاعة بغداد: (هنا بغداد، الجمهورية العراقية) في صبيحة 14 تموز/ يوليو من عام 1958، معلنةً قيام الثورة بقيادة العقيد عبد الكريم قاسم ورفاقه على الحكم الملكي، ممثّلاً بالملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد. 

والأبعد من ذلك، في كلام صلاغليت، أنّه لم يعمل على محو تاريخ الضابط عمر من حياة زوجته ماريون، بل كان الإهداء له في كلّ كتبهما المشتركة، على عكس ردّات الفعل العراقية على الضباط الأربعة في انقلاب الأربعينيات، حيث أُعدموا من قبل الملك، ثمّ قُتل الملك وعائلته على يد الثوّار، الذين قتلوا فيما بعد عبد الكريم في غرفة الموسيقى في الإذاعة العراقية، بأمر من صديق العمر والثورة عبد السلام عارف، الذي أصبح رئيساً للجمهورية. ومن بعدها تتالت الانقلابات العلنية أو غير العلنية، والمحو والإثبات في العراق، إلى أن أعادت الولايات المتحدة الأميركية خلقه من جديد منذ عام 2003 بإسقاط حكم صدّام حسين. فهل كان صلاغليت يطلب من الراوي، إن فكّر بكتابة رواية عن حقبة عبد الكريم قاسم، ألّا يمحو من تاريخ العراق شيئاً؟ فكلّ حادثة أو واقعة مهما بدت تافهة، لها من أثر الفراشة نصيب. 

غرفة المرايا:

يقارن الروائي بين صورة مقتل الزعيم التي نشرتها مجلة التايمز في صبيحة 9 شباط/فبراير 1963 في غرفة الموسيقى في إذاعة بغداد، وصورته الوحيدة بعد ولادته بثلاث سنوات في صيف 1917، إذ كانتا كلتاهما غير واضحتَي المعالم، وكأنّ سيرة حياة الزعيم أصابها ضباب لندني، كما أصاب تاريخ العراق. وفي المقابلة التي أُجريت مع الزعيم، قال إنّه في طفولته كان يقضي ليالي الشتاء الطويلة ناظراً إلى سقف الغرفة وهو يتخيّل أشياء عديدة لا يعرف أحدٌ ما هي! وعلى المنوال نفسه قضى آخر ليلة له في بيته في السابع من شباط/ فبراير 1963 في حي العلوية محدقاً إلى السقف! 

فهل كان الزعيم يبحث عن مرآة يجلو فيها الأحداث التي قادته إلى تغيير تاريخ العراق من الملكية إلى الجمهورية؟ لربما نعم! والأحرى أنّ هذه طريقة الراوي لكي لا يقع في سرد أحادي الجانب سيقود في النهاية إلى أسطرة الزعيم أو شيطنته، وبالمثل كلّ شخصيات الرواية: من لورانس العرب إلى العائلة المالكة، إلى الروائي جورج أورويل الذي كتب عن انقلاب الضباط الأربعة وعدّه إنذاراً بانحسار النفوذ البريطاني في العراق، إلى عبد السلام عارف، أو حسين الرحال رائد الفكر الاشتراكي في عراق العشرينيات، وغيرهم الكثير من شخصيات حقيقية وتاريخية ومتخيّلة. 

إذاً، تصادي المرايا هو الأسلوب المعتمد في الرواية؛ كلّ مرآة تسلّم للأخرى ناصية السرد أو الانعكاس. بهذه الطريقة تخلّص علي بدر حتى من السرد متعدّد الأصوات الذي يشي ـــــ في مكان ما ـــــ بصوابيّة صاحب كلّ صوت في مقابل الأصوات الأخرى، لصالح تعدّد الأصداء، حيث الشكّ بما يُقال يمنحنا فرصة ألّا نرى الحقيقة كغاية، بل كطريق، لا نحوها وإنّما نحو أنفسنا. فما إن يُذكر ـــــ على سبيل المثال ـــــ رئيس الوزراء نوري السعيد حتى ينبثق متحدّثاً عن ذاته وضعف سمعه، الذي أنقذه منه السفير الأميركي في العراق بإهدائه سماعة طبية؛ وقد تكون هذه الحادثة تلخيصاً لمقولة ألان دلاس، أكبر رجال المخابرات الأميركية، الذي صرّح عام 1956 بأنّ أكبر خطر يتهدّد أميركا هو الوضع في العراق! 

أو ما إن يفتتح الراوي سرده على الأيام التالية لاغتيال الزعيم، حتى تخرج لنا من ثنايا أحداث الاغتيال ماريون فاروق، تلك الألمانية الهاربة من النازية التي قُتل أبوها في معتقلاتها، لتتزوج ضابطاً عراقياً له ميول يسارية، أعدمه الذين انقلبوا على عبد الكريم قاسم وصرّحوا بضرورة شيطنة اليساريين. أو يخرج لنا الروائي غائب طعمة فرمان وهو يقرأ في الصحافة الروسية خبر اغتيال عبد الكريم قاسم. أو أنْ يطلّ بدر شاكر السياب بقصيدته أنشودة المطر، التي كان الزعيم يحبّها جداً. 

بهذا الأسلوب السردي استطاع بدر أن يضبط فوضى الأحداث وتشتّت الوقائع وتأثير التدخّلات الأجنبية التي عصفت بالعراق: من ثورة العشرينيات، إلى أن أصبح عبد الكريم معلّماً يحبه تلاميذه، ثم تطوّعه في الجيش، وترقّيه عبر سلّم المراتب العسكرية بسبب انضباطه كساعة أبيه التي كان يراه مهموماً بها، يتفقّدها بين الحين والآخر ليتأكّد من سماع تكتكتها.  

الزعيم:                                                                            

عندما وقع ناظري على رواية الزعيم، قلت في نفسي: ما الذي لم يُكتب بعد عن الزعيم؟ لم أقصد باستفهامي الجانب التخييلي عنه، وإنّما السياسي والتاريخي والاجتماعي. فرواية عن عبد الكريم قاسم تشبه حال سانتياغو نصّار في رواية ماركيز (قصة موت معلن)، فالجميع يعلم أنّه سيُقتل إلّا هو! وهنا: هل أصبح علي بدر سانتياغو نصّار في مقاربته للزعيم؟ لكن ما إن تدخل أجواء الرواية حتى يشتّت بدر هذا التوقّع، وكأنّه لن يأخذك إلى "قصر النهاية". فما هو "قصر النهاية"؟ هو قصر الرحاب الذي بناه الوصي عبد الإله ليستذكر منبته في نجد، وسكن فيه مع الملك فيصل الثاني والعائلة المالكة، إلى أن قُتلوا فيه على يد الضابط عبد الستار العبوسي، الذي التحق بالثورة عندما سمع البيان الأول يُذاع من بغداد على لسان العقيد عبد السلام عارف، محرّضاً الثوّار على التخلّص من العائلة الحاكمة. 

لقد أُهمل قصر الرحاب في زمن عبد الكريم، ليتحوّل في زمن عبد السلام إلى سجن، ومن ثمّ إلى مبنى للمخابرات لا يمكن الاقتراب منه. أمّا المقصد من ذلك فكان إعلامنا بأنّ بدر لن يكتب رواية سياسية ولا تاريخية، وإنّما كتب "رواية الصدى"، فالأصوات المعتادة ـ أسواء لقصة حياة قاسم أو العراق، من سياسية واجتماعية وتاريخية ملوّثة، فكان لا بدّ من صدى تلك الأصوات، لا هي ذاتها، لكي لا يقمع صوت صوتاً، لربما أرادها بدر سردية ليبرالية تمنح الشخصيات في الرواية على كثرتها سرديتها الخاصة، وحتى هواماتها، كما في الواقع الحالي للعراق، فلكلّ عراقي روايته الخاصة عمّا حدث ويحدث. 

هكذا أنقذ بدر السرد من الصبغة السياسية والتاريخية في روايته، فالعراق ليس قصر الرحاب/ النهاية/ السياسة فقط، ولا قصور الرؤساء من بعده، بل تلك الحارات والدروب ونهرا دجلة والفرات واستكانات الشاي والمواويل الحزينة التي خرج من بين ثناياها عبد الكريم قاسم، لذلك رأينا شخصية الزعيم مراوغة في رواية بدر حتى نكاد أن نقول: أحقّاً هذا الشخص سيقلب ما خطّطت له الدول الكبرى بين ليلة وضحاها حتى عملت فيما بعد جاهدة لقتله على يد أقرب أصدقائه!                                                         

وأخيراً نقول: مات الزعيم في غرفة الموسيقى بين المارشات العسكرية وصوت القصب في الأهوار. لكن من يقرأ رواية علي بدر بحثاً عن استشراف المستعرِب بيتر صلاغليت لمعرفة كنه ما حدث في العراق، فلن يجده! لأنّ المرء لا يستطيع أن يستحمّ بماء التاريخ والسياسة إلّا مرتين، مرّة كالتراجيديا والثانية كمهزلة، لكنّ التخييل باب مفتوح أبداً على الصدى ولربما الحقيقة.   

اخترنا لك