ما ترَون لا ما تسمعون

أيها القارئ الحصيف، عندما تُضيء الشاشة وتطل هذه الوجوه الواثقة، وتنهمر تلك الشلالات من المصطلحات البرّاقة، تذكّر أن العمق ليس في وفرة الكلام، بل في مصداقيته وجوهره.

  • عن الانترنت
    عن الانترنت

كلما وقعت حرب أو اشتدّت أزمة تكتظ شاشات التلفزة والمنصات بالمحللين والمنظرين الذين يحاولون قراءة الأحداث وتفسير خلفياتها وتحليل دلالاتها وتوقّع مآلاتها، ومما لا شك فيه أن لبعض هؤلاء خبرة ومعرفة ووعياً بما يحدث، لكن الأعم الأغلب يطلق كلاماً في الهواء بلا قيمة. كلام فارغ أجوف لا معنى له سوى التهويل وحرف الأمور عن مسارها، وتفسير الأحداث والوقائع بما يخدم الأجندات التي لا تخفى على لبيب، أو لهثاً وراء "الرايتينغ"بهدف رفع نِسب المشاهدة، وكسب المزيد من المتابعين المغفّلين.

هذه الغالبية التي تملأ الشاشات بأطياف الكلمات، تنسج من الهواء خطاباً، وترقص على أنغام الأحداث رقصة البهلوان الذي يحول الرمل إلى ذهب وهمي. إنهم "المحللون" و"الخبراء" و"الاستراتيجيون"، أولئك الذين صارت الشاشة مرتعهم، والثرثرة الفارغة صنعتهم.

يطلون علينا كعرافين في سوق النبوءات الرخيصة، لكن عرافتهم لا تعدو كونها إعادة صياغة الواقع بلغة مُنمقة، مُحملة بمصطلحات كالفقاقيع: "الرهانات الجيوسياسية"، "المعادلات المتغيرة"، "السيناريوهات المحتملة"، من دون أن ينفذ حرف واحد منها إلى جوهر الأمر أو يكشف سراً خافياً.

إنها مهنة العصر الغريبة: مهنة مَن لا مهنة له. نشاهد ضابطاً تقاعد عن الخدمة من دون أن يشارك يوماً في معركة عسكرية، فإذا به بين عشية وضحاها يصبح "خبيراً استراتيجياً" يُستفتى في شؤون الأرض والسماوات! وكأن امتلاك رتبة عسكرية يوازي امتلاك رؤية ثاقبة لتعقيدات العالم وشعوبه.

نشاهد صحافياً أو موظفاً سابقاً في دوائر غامضة، فإذا به يصبح "محللاً سياسياً" يُفسّر حركة التاريخ بجرّة قلم وكأنه يقلب صفحات رواية مكتوبة بيده. لا سندَ لهم من علم رصين، ولا زادَ من بحث متعمق، ولا أرشيفاً من معلومات موثقة تختبئ خلف أحاديثهم الملساء. هم رهان القنوات على ملء الفراغ الزمني بصوتٍ دافئٍ وثقةٍ تفيض عن الشاشة، ورهان المشاهد على إيهام الفهم بغير عناء التفكير.

والأدهى من صناعة الفراغ، صناعة الوهم! فهناك من ينسج خيوط تحليله من خيال خصب، فيستشهد بـ "مراكز أبحاث" وهمية كأنها أشباح في عالم الأفكار، أو يذكر "مصادر عليمة" لا وجود لها إلا في دهاليز ذهنه. يلقي بأسماء كبرى (معهد فلان للدراسات المتقدمة، مركز علان للبحوث الاستراتيجية) على مسمع المتلقي المُستسلم، كالساحر الذي ينثر غباراً لامعاً ليُلهي عن فراغ اليد.

هذا البهلوان اللفظي يعلم أن سلاحه الأقوى هو كسل المتلقي في التمحيص، ورغبته الملحة في سماع تفسيرٍ سهلٍ يريحه من عبء التساؤل والتدقيق. فيغدو المستمع شريكاً غير طوعي في لعبة التضليل، يبتلع السمّ ممزوجاً بعسل البلاغة الرخيصة.

إنهم لا يفسرون الواقع؛ بل يُعيدون تغليفه بكلماتٍ أضخم من حجمها، وأجوف من جذع شجرة ميتة. هم حراس بوابة الوهم، حيث يتحول الحدث الجلل إلى لعبة لفظية مسلية، والمأساة الإنسانية إلى "تحدٍ استراتيجي"، والصراع الدامي إلى "معادلة متغيرة المعطيات".

كلامهم كالدخان: يملأ المساحة لحظةً ثم يتبدد من دون أن يترك أثراً يُذكر، أو بصمةً تُفيد. إنهم ببغاوات العصر الإعلامي، تكرر ما تسمع بلغةٍ أجمل، من دون أن تفقه معناه أو تُدرك ثقله.

فيا أيها القارئ الحصيف، عندما تُضيء الشاشة وتطل هذه الوجوه الواثقة، وتنهمر تلك الشلالات من المصطلحات البرّاقة، تذكّر أن العمق ليس في وفرة الكلام، بل في مصداقيته وجوهره. لا تمنح أذنك لمن يبيعك الهواء المُعطر بكلماتٍ فارغة. ابحث عن الصمت الذي يسبق الفكرة الجلية، عن التواضع الذي يرافق المعرفة الحقيقية، وعن الصوت الذي يرتجف لأنه يحمل ثقل الحقيقة، لا خفة الفراغ المُزيّن. فالواقع أعقد من أن يحويه خطابٌ بلا روح، والحقيقة أصدق من أن تنكسر على سندان الثرثرة.

ولكن أيها المتلقي الحصيف، في قلب هذه العاصفة من الألفاظ الجوفاء، أنت الترياق. لقد انقلبت المعادلة اليوم: فالمعلومات لم تعد حكراً على "الخبراء" المزيفين، بل منابعها أصبحت في متناول يدك. الشبكة العنكبوتية تحوي أرشيفاً مفتوحاً من المصادر الموثوقة، والمكتبات الرقمية تقدم دراسات محكمة، والمراكز البحثية الحقيقية تنشر تحليلات مدعومةً بالبيانات.

لا تكن مستهلكاً سلبياً للكلام المعاد تدويره، بل كن صياداً جريئاً للحقيقة. اجعل من الشك منهجاً، ومن السؤال سلاحاً، ومن التدقيق عادةً راسخة. كل معلومة تسمعها، كل تحليل يعرض عليك، اقلبه على أوجهه: من قاله؟ وما مصدره؟ وما الدليل؟ 

واحذر أن يخدعك بريق الألقاب والرتب. فامتلاك اللقب لا يعني امتلاك الحكمة، وارتداء الزي العسكري السابق لا يمنح صاحبه عصا موسى لفك شيفرات العالم. القراءة الواعية هي درعك، والمعرفة المتخصصة هي سلاحك. املأ عقلك بالكتب الجادة، وتابع الباحثين الجادين، واقتحم عوالم الاقتصاد والسياسة والاجتماع من بواباتها الأكاديمية الرصينة. لا تكتفِ بالومضات الإعلامية؛ فالحقيقة كالبحر، لا يُعرف عمقه من رشقات الأمواج على الشاطئ. 

وأنصت جيداً: الشك ليس عيباً، بل فضيلة. إنه البوابة التي يعبر منها العقل إلى فضاء اليقين. حين يُغرقك "المحلل" بسيل المصطلحات الرنانة، توقف واسأل: ما الجديد الذي أضافه؟ وما الحقائق التي كشفها؟ وإذا زعم وجود تقارير أو مراكز، ابحث عنها. ستكتشف أن كثيراً منها سراب لا ظل له.

في هذا العصر، الجهل اختيار، والمعرفة مسؤولية. فلتكن أنت الحارس الذي يرفض أن يُخدع ببريق الكلمات، والراصد الذي يميز بين صوت الجرس الأجوف ورنين الفولاذ الأصيل.

تذكّر: الواقع لا يُفسره من يملأ الفراغ بالثرثرة، بل من يملأ العقل بالعلم، والقلب بالإنصاف، واللسان بالصدق. فكن أنت "الفلتر" الذي يصفي الضجيج، والمصباح الذي ينير الزيف. ففي النهاية، الحقيقة لا تُمنح، بل تُنتزع.

المتابع الذكي المحصّن بالبحث الذاتي والوعي المعرفي يستطيع تمييز الغث من السمين، والخبير الحقيقي من بائع الكلام ومحترف الثرثرة. لذا كن من هؤلاء الذين لا يصدّقون كل ما يُتلى على مسامعهم من أضغاث أوهام؛ فالخبر ما ترَون لا ما تسمعون.

اخترنا لك