"البطل ما بموت": تَشظّي الذاكرة وصمود الحلم

يقول لنا العرض من خلال السرد كما من خلال الرؤية الإخراجية إنّ القيود يمكن أن تتحوّل إلى قوة، ويتجاوز حدود الشكل الكلاسيكي كما في روائع المونودراما العربية.

  • من العرض المسرحي
    من العرض المسرحي "البطل ما بموت" في بيروت

منذ 40 عاماً أتابع الحركة المسرحية في بيروت، وأبرز ما يلفتني ويدهشني أنّ هذه الحركة أكثر ما تزدهر خلال الحروب والأزمات؛ فالمتابع لسيرة ومسيرة المسرح اللبناني يلاحظ أنّ معظم العروض قُدِّمت أثناء الحرب، ومنها عروض فرقة الحكواتي وروجيه عسّاف وزياد الرحباني ويعقوب الشدراوي وجلال خوري وريمون جبارة ولطيفة وأنطوان ملتقى وشكيب خوري وسواها من تواقيع الخشبة اللبنانية.

… من الماضي إلى الحاضر، رغم كلّ ما مرّ على العاصمة اللبنانية مؤخّراً؛ جائحة "كورونا"، الانهيار المالي والاقتصادي، تفجير مرفأ بيروت، الحرب الإسرائيلية المدمّرة، والأزمات السياسية الدائمة، تكاد لا تمرّ ليلة إلّا وعلى خشبة المدينة عرض جديد، وهذا يؤكّد ما نردّده دائماً بأنّ العصب الحيّ لبيروت هو العصب الثقافي.

آخر العروض التي تسنّى لي مشاهدتها مسرحية "البطل ما بموت" التي قُدّمت بداية في فنزويلا ثمّ في بيروت، وقبل يومين أُعيد تقديمها على خشبة مسرح المدينة في شارع الحمرا.

جسدٌ واحد يحمل 4 أجيال على خشبة مسرح، حيث حوّل الفنان عوض عوض جسده إلى أرشيف حيّ للقضية الفلسطينية عبر مونودراما "البطل ما بموت" من كتابته وتمثيله، وإخراج علية الخالدي. لم يكن الأداء مجرّد تمثيل، بل رحلة في متاهة ذاكرة شعب: من تهجير 1948 على يد العصابات الصهيونية إلى هوية اللاجئ اليوم، عبر أدوار متشابكة تؤدّيها قامة واحدة.

على مدى 70 دقيقة متواصلة قدّم عوض أداءً استثنائياً في تقمّص 4 شخصيات:  

 - "سيدي إسماعيل" (جدّ منصور): حركات ثقيلة كرجل شيّخته النكبة، وصوت مبحوح يُخبّئ دموعاً خلف حكايات المفاتيح المدفونة في انتظار العودة الموعودة.

- "منصور" الفدائي: جسد مشدود كزناد بندقية، ونبرة متوترة تُقلّب ذكريات المعارك كرصاصات.  

 - "الابن المحطّم": كتفان منحنيان وهمسات تُلامس اليأس: "صرنا شمّاعة تُعلّق عليها خيبات العرب!".  

 - "الحفيد الشاب": سخرية لاذعة في تقطيع الإيقاع، "بطاقتي تقول: عديم الجنسية... كأنني شبح!".

الجسد وهو الأداة الرئيسية في الأداء المسرحي تحوّل في العرض إلى ما يشبه الخريطة. السردية: ظهر الممثّل المنحني يشي بثقل المعاناة، ويداه الممدودتان تحوّلتا إلى سهم يُحدّد مكان قريته "السميرية" التي تظلّ حيّة في الذاكرة رغم تدميرها كليّاً على يد الاحتلال، حتى تنهيداته صارت صفّارات إنذار في المخيم.  

  • من العرض المسرحي
    عوض عوض في "البطل ما بموت" في بيروت

حوّلت المخرجة علية الخالدي أدوات بسيطة إلى عالم استعاري عميق: متاهة القساطل البلاستيكية لم تكن مجرّد ديكور، بل تشظياً للجغرافيا الفلسطينية واختناق المخيمات. حركة عوض بينها جسّدت صراع الإنسان مع قيود اللجوء. الكوفية الفلسطينية تحوّلت من علم يرفرف إلى غطاء رأس لعروس في حفل فلسطيني، ثمّ كفنٍ لشهداء صبرا وشاتيلا، كلّ تحوّل هنا هو فصلٌ من الجلجلة الفلسطينية المستمرة من نكبة العام 1948 وصولاً إلى جريمة الإبادة المتواصلة في غزة.

أجادت المخرجة في استخدام الأدوات ومنحها دلالات رمزية، الكرسي الخشبي مثّل بيت الجدّ في فلسطين، ومقعد التهجير في مخيم عين الحلوة، وتابوت الجدّ حين وفاته. قطع القماش تنوّعت دلالاتها وكان الأكثر تأثيراً تحوّلها أكفاناً للشهداء، فيما خلقت الإضاءة المركّزة ظلاً على القماش الأبيض خلف الممثّل، كاستعارة لجروح لا تندمل.  

يقول لنا العرض من خلال السرد كما من خلال الرؤية الإخراجية إنّ القيود يمكن أن تتحوّل إلى قوة، ويتجاوز حدود الشكل الكلاسيكي كما في روائع المونودراما العربية، إذ جسّد عوض مشهد هروب الناجين من صبرا وشاتيلا عبر أصوات متداخلة، وكأنّ جسده الواحد "كورس أرواح".  

  • الفنان عوض عوض
    الفنان عوض عوض

حوار الأجيال على جسد واحد: حين يتحوّل إلى جدّه وهو يوبّخه: "إنتِ شايف حالك بطل؟ البطل الحقيقي اللي رجّع أرضه!"، يصير الصراع حواراً بين ماضي الحلم وحاضر التشظّي.  

حتى كسْر الجدار الرابع بحسب المصطلحات النقدية صار فعل مقاومة عبر نظرات الممثّل المباشرة للجمهور التي بدت كأنها تأكيد أنّ الذاكرة الفلسطينية ملكٌ لكلّ لاجئ.  

في المشهد الختامي، يلقي "منصور" العجوز بالكوفيّة على القساطل فتصير شجرة خرنوب، ويجلس تحتها كأنه في حقل السميرية. هذه اللحظة تختزل جوهر العمل: "الوطن ليس مكاناً فحسب، بل قدرةً على خلق الجمال من رحم القبح" كما يقول عوض عوض.  

على خشبة مسرح المدينة في شارع الحمرا، حيث ترفض بيروت الموت رغم انفجارها وانهيارها، تثبت هذه المونودراما أنّ "الجسد الواحد قادرٌ على أن يكون أمّة". وكما قال عوض في أحد حواراته: "أداء الأجيال الأربعة في جسد واحد هو تشبيه لجوهر القضية: شعبٌ مُشظّى يبحث عن اكتمال" حتى يتحقّق حلم العودة إلى الوطن السليب.

جملة الختام في العرض تؤكّد الحلم الفلسطيني المتوارث جيلاً تلو جيل، سنعود يوماً مهما طال درب الجلجلة، ومهما بلغت المعاناة والتضحيات، إذ تنتهي المسرحية بصرخة منصور الحفيد: "مات سيدي اسماعيل ومات جدّي منصور وعاشت فلسطين".

اخترنا لك