"الفري".. هويّة الجزيرة السورية وتراثها الحيّ

لباس تراثي يُعَدّ جزءاً مهماً من التراث المادي لأبناء الجزيرة السورية، ويصل سعر أجوده إلى ألف دولار أميركي. ماذا تعرفون عن "الفري"؟

في كرسيّه المصنوع من الخيزران، يجلس الخيّاط وائل عبد الأحد (أبو هيثم) داخل محلّه الصغير في سوق "الخياطين" في مدينة الحسكة، شمالي شرقي سوريا. يطرّز الرجل الستيني بيديه المجعدتين رداءً تراثياً تشتهر به منطقة الجزيرة السورية، هو "الفري"، الذي يُعَدّ من الألبسة التراثية التي تشكّل جزءاً مهماً من الذاكرة الشعبية والتراث المادي لأبناء المنطقة.

تحكي الجدران العتيقة في محل أبي هيثم قصة السوق التي نشأت في ثلاثينيات القرن الماضي، ورحلة تطورها على مرّ السنين، بينما يسرد الرجل حكاية مهنته الموجودة قبل "سوق الخياطين" بعشرات الأعوام، وكيف أن "الفري" مهنة يدوية متوارثة عبر الأجيال ومرتبطة بتاريخ الجزيرة السورية وتُراثها.

الفروة، أو ما يُعرف محلياً بــ "الفري"، يشتق اسمها من المادة الأساسية التي تدخل في صناعتها، وهي مادة الفرو والصوف الطبيعي، وتتألف غالباً من قطعة واحدة تتضمن القماش الخارجي السميك، المطرز وفق أشكال هندسية، والبطانة الداخلية. والفروة تغطي جسد الرجل من العنق حتى القدم، وتُعَدّ نوعاً من الوجاهة التي تضفي على من يرتديها جمالاً وهيبة.

وتُعَدّ صناعة اللباس التقليدي في الحسكة جزءاً أساسياً من التراث الثقافي الذي يحافظ على رونقه وحضوره على رغم منافسة صناعة الألبسة الحديثة ومزاحمتها، بحيث تحظى صناعة "الفروة" إلى اليوم بحضور لافت في الأسواق، ويعمل فيها حرفيون متخصصون ومحترفون توارثوا المهنة عن أجدادهم وآبائهم، ويسعون لتوريثها إلى أبنائهم وأحفادهم.

يختص محل أبي هيثم بصناعة لباس "الفروة" بالطريقة اليدوية، لكنه أيضاً أدخل مؤخراً آلة خياطة حديثة لمواكبة الطلب المتزايد على هذا النوع من الملابس. ويقول، في مقابلة مع "الميادين الثقافية": "ورثت هذه المهنة عن والدي، وهو بدوره ورثها عن جدي، منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ونحن نسعى اليوم للمحافظة على المهنة التي تبدلت أحوالها كثيراً خلال الأعوام الماضية".

وفي شرح لطبيعة هذا اللباس التراثي يشير أبو هيثم إلى أن "الفروة" مخصصة لفصل الشتاء، كونها تؤمن الدفء لمن يلبسها، فطبقة الصوف التي تشكل البطانة الداخلية تعطي حرارة كافية لجسد الإنسان، وخصوصاً إن كانت مصنوعة من الصوف الطبيعي وتمت حياكتها يدوياً، بالإضافة إلى طبيعة القماش الخارجي، والذي يزيد في متانة "الفروة" وسماكتها، بحيث تختلف الجودة بحسب نوع الفرو المُستخدم.

أنواع متعددة لـ "الفروة"

"الفري" أو "الفروة" لها نوعان من حيث طريقة الصناعة. الأول هو الطبيعي الذي يُصنع من فرو الخراف بصورة كاملة، وتتم حياكته يدوياً لدى حرفيين متخصصين. أما النوع الثاني فهو الصناعي، والذي يُعَدّ حديثاً نسبياً، لكنه أرخص بشأن التكلفة المادية، وتدخل في تركيبته الأقمشة الصناعية، بحيث يتم إنتاجه ضمن معامل أو ورشات متخصصة، وتُعَدّ الفروة الطبيعية أفضل من جهة الوزن والدفء، لكن أسعارها أغلى حتماً.

أما الأنواع من حيث نوع الفرو والقماش المستخدم فهي متعددة ومتنوعة، ولعلّ أفضلها وأغلاها ثمناً هو "الفروة الطفيلية"، التي يكون قماشها الخارجي من الجوخ الإنكليزي ذي اللون الأسود، أو الجوخ الهندي إن لم يتوافر الإنكليزي، بينما تتألف بطانتها الداخلية من صوف الخراف الصغير حديثة الولادة، بحيث يتم تجميع نحو 30 قطعة من هذا الصوف بعد معالجتها ودباغتها لتشكيل البطانة، كما يقوم الخياطون المهرة بخياطة هذا النوع من "الفري" على أيديهم بهدف الاعتناء بالتفاصيل الدقيقة لها، ويقومون بتطريز قماشها الخارجي وأكمامها بأشكال هندسية متعددة.

وما يميز هذا النوع من "الفري" هو خفة وزنها مقارنة بسائر الأنواع، كما أن بطانتها الداخلية ذات ملمس ناعم ولون أبيض وهّاج كونه يُصنع من صوف الخراف حديثة الولادة، بينما يضفي قماش الجوخ الإنكليزي الأسود مهابة وجمالاً على الرجال. وهذا النوع من "الفري" مرتفع السعر، وتتم صناعته بناءً على طلب خاص. فإن توافرت هذه "الفروة" بمواصفاتها القياسية فقد يبلغ سعرها 1000 دولار أميركي أو أكثر.

أما النوع الثاني فهو "الفروة الغنامية"، وتُعَدّ أصل صناعة "الفروة"، وتكون مخصصة لرُعاة الأغنام وأهالي الأرياف لتقيهم البرد القارس، في أثناء رعيهم الأغنام في البراري، أو في أثناء ممارسة أعمال الزراعة. أما الشكل الخارجي لهذه "الفري" فليس له أهمية كبيرة، ويُصنع من أنواع متعددة من الأقمشة، بينما تصنع بطانتها الداخلية من أصواف الأغنام، ولاسيما الأكباش ذات الأوبار الطويلة، وأسعارها ليست مرتفعة مقارنة بــ "الفروة الطفيلية"، وتتراوح بين 50 و75 دولاراً.

وهناك نوع ثالث من "الفري"، وهي الفروات الصناعية التي تُصنع جاهزة في ورش متخصصة، وتكون بجودة منخفضة وقماش صناعي وبطانة صناعية، وأسعارها رخيصة نسبياً، لا تتجاوز 10 دولارات، الأمر الذي جعل الإقبال عليها كبيراً بين الأهالي في ظل الظروف المعيشية الصعبة، التي تشهدها مناطق الجزيرة السورية.

يوضح الباحث التراثي عايش كليب، في حديث إلى "الميادين الثقافية"، أن صناعة "الفري" من الصناعات التقليدية، وهي من الحرف اليدوية المتجذّرة في تاريخ المنطقة الشرقية من سوريا، ويُطلَق على صانعها اسم "الفرَّا". وهي لباس تُراثي متعارف عليه لدى أهل الجزيرة السورية منذ عقود. ويضيف: "للفري قيمة اجتماعية، بحسب نوع جلودها وطريقة صنعها وقماشها، فمنها غالية الثمن التي يلبسها ذوو المكانة والميسورون، ومنها دون ذلك ويلبسها عامة الناس".

وأشار كليب إلى أن صناعة "الفري" والصناعات اليدوية غيرها، كالسجاد والبسط والحياكة، تراجعت بصورة كبيرة خلال أعوام الحرب نتيجة عدم توافر مستلزمات صنعها وارتفاع تكاليف الإنتاج، الأمر الذي اضطر عدداً من أصحاب المحال والورش إلى إغلاقها، بينما لجأ كثيرون من الأهالي إلى شراء الألبسة الجاهزة نظراً إلى انخفاض أسعارها.

الحرب وآثارها

كغيرها من الصناعات، طرأت على صناعة "الفري" تغييرات جوهرية بهدف تطويرها وتحسينها وجعلها أكثر حداثة، على نحو يتلاءم مع الواقع السائد حالياً في مجتمع الجزيرة السورية. وأدى انتشار "الفري" بين فئة الشبان إلى زيادة المبيعات بصورة ملحوظة خلال الأعوام القليلة الماضية. وهذا الانتشار مردّه الأساسي التحسينات التي دخلت هذه الصناعة، فلم يعد اللون الأسود والبني المنتشرين فقط، بل دخلت ألوان جديدة، مثل الفضي والأحمر الخفيف بتدرجاته والذهبي. وبدأت تظهر أشكال هندسية ورسوم بسيطة على "الفري"، وأصبح هناك فراء مخصصة للنساء، وهذا ما جعل لها سوقاً جيدة بين سكان المنطقة.

وبشأن تأثر هذه الصناعة خلال الأزمة التي شهدتها سوريا، يؤكد سلامة خليل، أحد بائعي "الفروة" في مدينة القامشلي، أن ظروف الحرب والحصار الاقتصادي أثّرت بصورة كبيرة في هذه المهنة. فكثير من أنواع الأقمشة الجيّدة لم بعد متوافراً في مناطق الجزيرة السورية، ولا سيما الجوخ الإنكليزي. كما أدى خروج "مدابغ" حلب عن الخدمة إلى عدم توافر الأصواف التي كانت تُستخدم في صناعة بطانة الفروة الداخلية، ويتم حالياً استيراد الصوف من الخارج.

ويشير خليل إلى أن "الفري" الصناعية، نتيجة رخص أسعارها، زاحمت الفري الطبيعية، "الطفيلي" و"الغنامي"، والتي أصبح شراؤها حكراً على فئات مجتمعية معينة من الميسورين نتيجة الارتفاع الكبير في أسعارها.

أما حركة البيع والشراء فيشير خليل إلى أن موسم البيع يزدهر خلال الفترة الخريفية وطوال فصل الشتاء وأوائل فصل الربيع، بيسنما تتوقف في فصل الصيف، بحيث يتحول الخياطون، الذين يصنعون "الفري"، إلى خياطة لباس تقليدي آخر، هو "الكلابية".

لا بدّ من أن الحرب في سوريا ساهمت في تراجع عدد من الصناعات والمهن اليدوية التقليدية، كما أنها أرخت بثقلها على مختلف القطاعات الحيوية في البلاد، وهو ما أثّر بصورة كبيرة في الواقع المعيشي للسوريين. لكن، على رغم ذلك فإن السوريين يحاولون اليوم النهوض مجدداً ونفض غُبار الحرب عنهم، والعمل على إعادة دوران العجلة الاقتصادية، وبثّ الروح في القطاعات التي تشكّل جزءاً من تاريخ وطنهم وتُراثه المتجذر في عمق التاريخ.