"رائحة الأوطان على ثياب المسافرين".. ماذا يخبرنا الخبز؟

خبز سادة وخبز عبيد. صراعات وحروب خيضت من أجله. كيف يرتبط الخبز بتاريخ الشعوب؟ وأيّ قصص يرويها كلّ رغيف؟

يحيل مشهد أكياس الطحين على الأكتاف قبل أن تتلطّخ بالدماء في إثر غارة إسرائيلية على تخوم بحر غزة أثناء توزيع المعونات، يحيل إلى تاريخ طويل من الصراعات الدامية من أجل الخبز. فلا وجبة طعام مكتملة من دونه، ولا صداقة متينة من دون خبز وملح.

هكذا ارتبط الخبز بالتاريخ الثقافي للشعوب، فالرحلة منذ اكتشاف أول سنبلة قمح قبل نحو 10 قرون قبل الميلاد إلى اليوم، لا تخلو من صراعات وحروب ونزاعات من أجل الرغيف. كما أنها تنطوي على فوارق طبقية بين خبز الأغنياء وخبز الفقراء، أو خبز السادة وخبز العبيد، وسيتحرّر الرغيف من ثقله وخشونة مكوّناته بعدما اكتشف المصريون القدماء مادة الخميرة البريّة. وكان خلط القمح بالماء وعجنه قفزة نوعية في صناعة النكهة. كما كان اختراع الرحى في طحن الحبوب خطوة متقدّمة في منح الرغيف علامة إضافية في تطوّر العمران البشري والانتقال من الهمجية إلى الحضارة.

وستوفّر زراعة القمح في منطقة حوران في الجنوب السوري حاجة الجيش الروماني من الخبز باعتبارها مقاطعة رومانية و"سلّة غذاء الإمبراطورية"، وستعتمد مطاحن إيطاليا القمح السوري كأفضل أنواع الطحين في تصنيع السباغيتي.

ويلفت المؤرخ الأميركي ويليام روبل في كتابه "تاريخ عالمي للخبز"(دار ألكا، ترجمة نادين العودة/2023)، إلى طرق التفكير في الخبز التي تُظهر أنّ لكلّ رغيف قصة متعدّدة الطبقات ليرويها. فالخبز كما يقول "علامة اجتماعية" في المقام الأول. إذ تختلف مائدة الغني عن مائدة الفقير تبعاً للفرق بين الدقيق الأبيض و"خبز الجاودار" الأسمر، حيث تتماهى المسافة بين خبز الخيول المؤلف من الشعير والشوفان والتبن، وخبز الفقراء في المكوّنات.

الآن بإمكاننا تعداد أنواع لا تحصى من الخبز ليس كحاجة غذائية، بقدر ما هو "موضة" لجهة الكسوة والقوام ودرجة حرارة العجين ونظام التخمير، إذ "يجب أن يُنظر إليه بعيون عالم الأنثروبولوجيا الثقافية كشيء لا كطعام".

يعتني صاحب "سحر النار: الطبخ على الموقد المفتوح" بتاريخ الخبز في أوروبا وأميركا والمكسيك متجاهلاً إلى حدّ كبير منجز جغرافية الهلال الخصيب وبلاد الشام، التي عملت باكراً على توطين الخبز كمفردة ثقافية انتقلت من الموقد المنزلي إلى الأفران العمومية كتجربة إنسانية وغذاء للجسد والروح في آنٍ واحد. إذ يتواتر حضور الخبز في الكتب المقدّسة كرمز للخصوبة مثلما هو رمز لاستقرار البلدان. فسنوات الجفاف تقود إلى المجاعة بفقدان القمح، بالتوازي مع سياسة الأرض المحروقة التي اعتمدتها بعض الدول الاستعمارية حيال مستعمراتها بقصد قهر شعوبها وتجويعها وإخضاعها، وكأن لا كرامة لشعبٍ ما من دون خبز.

في "العشاء الأخير" وفقاً للإنجيل "أخذ يسوع خبزاً وباركه وكسره وناول تلاميذه وقال: هذا جسدي فكلوه"، و"أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك في الأرض كما في السماء، أعطنا خبزنا كفاف يومنا"، و"في الماء هذا أبي وفي الخبز هذا أمي"، و"أنا هو خبز الحياة من يقبل إليّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً". 

سيخلّد الرسّام الإيطالي ليوناردو دافنشي هذه اللحظة. لحظة ما قبل الصلب بلوحة خالدة أنجزها نهاية القرن الــ 15 على جدران كنيسة سانتا ماريا ديلي جراسي في مدينة ميلانو، مبرزاً الخبز والنبيذ كقربان مقدّس فوق مائدة السيد المسيح وحوّاريه الــ 12. ويورد القرآن الكريم مفردة الخبز في أكثر من سورة وآية، كما في سورة يوسف "وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه".

وكان المصريون القدماء يبتهلون لنهر النيل بصلاة الخبز بوصفه أحد آلهة الخصب، حتى أنهم يسمّون الخبز "العيش" باعتباره زاد الحياة، فالكون بحسب ما يقول فيثاغورث يبدأ مع الخبز.

وعلى الرغم من أنّ الخبز مؤشّر على الإقامة والاستقرار لا العبور، إلا أن القوى الاستعمارية الأوروبية تمكّنت من نشر خبزها في مستعمراتها، كأحد أغراض الإخضاع الثقافي.

من جهتها، عملت القوة العسكرية والاقتصادية للكولونيالية الأميركية الجديدة على تصدير نموذجها إلى العالم، والمقصود هنا "خبز الهامبرغر" الذي اكتسح أبعد نقطة في العالم كنظام غذائي جديد وذوق مختلف مثله مثل سراويل الجينز، والكوكاكولا، نظراً للدعاية الكاسحة وسهولة الاتصال الجماهيري، والأمر ذاته بالنسبة لخبز "الباغيت" الفرنسي و"التوست" الألماني باكتساحهما موائد العالم كنموذجين ثقافيين.

هكذا ارتبط الخبز بالحدّ الأدنى للعيش كغذاء لا يمكن الاستغناء عنه. لذلك لا تتجرّأ الحكومات على العبث بثمن الرغيف، وحين تغامر برفع الدعم عنه تحصل اضطرابات تحت بند "ثورة الجياع". ووفق مقولة تاريخية أكيدة فإنه "يمكنك أن تتحكّم في الجماهير الغاضبة لكنك لن تسيطر على الجماهير الجائعة". هكذا كان هتاف النساء في الثورة الفرنسية التي اندلعت أواخر القرن الــ 18 في باريس"نريد الخبز"، وستشهد بلدان أخرى ما سمّي بانتفاضات الخبز احتجاجاً على الغلاء، كما حدث في مصر وتونس والمغرب.

وفي حصار سوريا خلال سنوات الحرب اضطرّت الحكومة إلى استيراد القمح بعدما كانت مكتفية ذاتياً منه، إلى درجة بيع الخبز بالبطاقة العائلية، فافتقدنا رائحة خبز التنور وفطائر حكمة الأمهات. ولن ننسى الأسباب التي دفعت الغزاة الجدد إلى تدمير المركز العربي لدراسات المناطق الجافة "أكساد" في حلب، ونهب بذور القمح النادرة وإعادة تهجينها على نحوٍ آخر يطيح خصوصيتها الغذائية. 

أما صعوبة المعيشة فتُختزل بعبارة موحية هي "خبز حاف"، وذلك حين تفتقد مائدة الطعام إلى أيّ صنف من الحساء، وهو ما جعل الروائي المغربي محمد شكري يعنون سيرته الذاتية باسم "الخبز الحافي"، في إشارة إلى جفاف حياته وقسوتها وخشونتها. كما ستسمّي الشاعرة السورية دعد حدّاد إحدى مجموعاتها الشعرية "كسرة خبز تكفيني"(وزارة الثقافة - دمشق/1979).

أما محمود درويش فسيختزل معنى الفقدان والحنين إلى الأرض الأولى بقوله "أحنّ إلى خبز أمي" (عاشق من فلسطين- 1969).

وسوف تتواتر مفردة الخبز في مجازات أدبية أخرى، كما لدى الروائي اللبناني الراحل توفيق يوسف عوّاد في روايته "الرغيف"(1939). إذ رصد خلالها أثر المجاعات التي أصابت لبنان أثناء الحرب العالمية الأولى ومكابدات الأهالي في اقتناص الرغيف نتيجةً لمصادرة السلطة العثمانية لمحصول الحبوب وتوفيره للجيش.

ويقول الشاعر السوري محمد الماغوط "كانت رائحة الخبز شهية كالورد، كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين"، و"أيها الرغيف أنت وثيقة الاستسلام التي تقدّم لنا كل صباح".

ويدعو جبران خليل جبران إلى التآخي الإنساني عن طريق اقتسام الخبز بعدالة قائلاً: "نصف الرغيف الذي لا تأكله يخصُّ الشخص الآخر".

وفي ملحمة غلغامش سنقرأ هذه الحكمة في ترويض الوحش: "الخبز يا أنكيدو بهجة الحياة". أما المثل الروسي فيقول إن "الجنّة هناك حيثُ يوجد الخبز"، ويختزل الشاعر العباسي أبو المخفَّف الصراع من أجل الرغيف بقوله "منعُ الرغيفِ سفاهةٌ.. تركُ الرغيفِ منَ الهَباتِ".
 

وستتجلى فلسفة الخبز بـــ 3 أمثال شعبية هي: "الخبز والزيت عماد البيت"، و"الخبز الحاف يعرّض الأكتاف"، و"من يأكل خبز السلطان يضرب بسيفه". وربما كان المثل الفرنسي هو الأكثر تعبيراً عن ضرورة الخبز في حياة البشر: "كان يوماً طويلاً رتيباً، كـيومٍ بلا خبز".

ولكن مهلاً، ما تفسير رؤية الخبز في المنام؟ بحسب تفسير عبد الغني النابلسي، فإن الخبز الأبيض يدل على الرزق الهني والعيش الرغد. والخبز الأسود يدل على النكد في العيش!