"ساعة واحدة فقط".. لماذا قُطِع "خيط أريان"؟

عرض "ساعة واحدة فقط" هو محاولة لترجمة جانب من الواقع السوري مسرحياً، من دون الاعتماد على نصوص أجنبية، بل بالاتكاء على نص محلي يتمحور حول موضوعات الحرية والانعتاق من الأسر، وضرورة الشفاء من الأمراض النفسية والاجتماعية.

ينطلق عرض "ساعة واحدة فقط" لمؤلفه زيد الظريف، ومخرجه منتجب صقر، من الواقعية الاجتماعية، محاولاً تحقيق أسلوبية توائم بين الأداء الواقعي والفانتازي للممثلين، وأيضاً بين الحوارات والمونولوجات، من خلال اللعب على الزمن المسرحي وتكثيفه في روح الشخصيات، بحيث يكشف مآزقها الوجودية واختلالاتها النفسية وتقاطعات أحلامها وكوابيسها.

يبدأ العرض على خشبة مسرح القباني في دمشق (5 - 15 حزيران/يونيو الجاري)، بوصول الشابة "صبا" (يارا مريم)، خريجة الأدب العربي، إلى منزل "هالة" (نورهان حمد) بعد أن حظيت بوظيفة ذات مردود مالي عالي، مقابل أن تجالس تلك السيدة وتقرأ لها أي شيء. لكن حيوية "صبا" وعفويتها تحوّلان تلك الجلسات، التي تستمر لساعة واحدة فقط في اليوم، إلى ما يشبه البوح والنَّبش في ماضي الشخصيتين، لتتكشف شيئاً فشيئاً القواسم المشتركة بينهما من المظالم والانكسارات الروحية والرغبة في التحرر من القيود المفروضة على الأنثى عموماً في هذه البقعة الجغرافية، لا سيما في ظل القوانين الاجتماعية الجائرة التي تُناصر الرجل مهما كان سيئاً بتفكيره وأفعاله.

"هالة" رغم جبروتها البادي للآخرين، فإنها هشّة جداً من الداخل. إذ تسلمت شركة والدها وأدارتها على أحسن ما يرام وحظيت باحترام الجميع، وهذا ما أثار غيظ شقيقها الأكبر "سامح" (زيد الظريف)، وجعله بعد وفاة أبيهما مُتحكِّماً بكل تفاصيل حياتها. فقد عزلها في قبو منزلهما الكبير، وخاصةً بعد الحادث الذي أودى بحياة حبيبها "فيليب" المنتمي إلى طائفة أخرى، وجعلها مهشَّمة العظام والروح، بحيث باتت تُعكِّز في حياتها على ذكريات الحب ومجد نجاحاتها السابقة فقط، بينما يصب سامح جلّ اهتمامه على الاستئثار بثروتها من الذهب والعقارات، جاعلاً منها مريضة نفسية أكثر منه، ومن دون أي سلطة لها عليه أو مقدرة في تخطي الحدود التي رسمها لها.

في المقابل، فإن "صبا" ما زالت تحتفظ بحبِّها للحياة عموماً، بما في ذلك حبها لـ"جمال" ومحبتها لوالدها الذي هجرها وهي صغيرة، ما جعلها تستاء من خنوع هالة واستسلامها لمطالب أخيها الجائرة. لذلك، تحاول إقناعها بالخروج من قوقعة الذل المفروضة عليها، وتلوين حياتها بالخيال مرةً وببهجة الواقع مرة أخرى.

وبعدما ظنَّت الشابة أنها نجحت في تحقيق ثورة هالة على وضعها، وتحديها لجبروت أخيها سامح، وتعزيز اندفاعها للخروج من القبو الكئيب نحو فضاءات الحياة بعدما مدَّت لها "خيط أريان" حسب الأسطورة اليونانية، تراجعت السيدة عن قرارها، لنكتشف أنها استساغت سجنها، وبتعبير صبا أن هالة بعد تلك السنوات من الأسر باتت تحب خوفها وغير قادرة على التمييز بين الأنانية والحب، ولا بين الاهتمام والتملك. على عكس تلك الشابة التي تخلَّت عن واقعها في ظل هيمنة أمها، التي دفعت والدها إلى الهرب من حياتهما، وقررت أن تسافر إلى حياة جديدة تلتقي فيها أبيها الذي أيقنت بعد زمن طويل صوابية قراره بالابتعاد، وبأن محبتها له ما زالت متأججة في قلبها، لينتهي العرض بانتظار هالة لقارئة جديدة تُسلِّي وحدتها، وفق القوانين الصارمة التي وضعها سامح وتهديداته المستمرة بأنه سيقتل أخته إن حاولت الهرب مرة أخرى، وبأن الموت وحده هو من سيفرقهما.

بين الحوارات الواقعية لهالة وصبا، والاقتحامات الفانتازية لشخصية سامح السيكوباتية، بنى المخرج منتجب صقر عرضه، معطياً المساحة الكبرى للكلام على حساب الفعل المسرحي، سواء في الحوارات أو المونولوجات الفردية، وهذا ما حمَّل الممثلين مسؤولية إضافية لنقل أحاسيس الشخصيات وعكس مشاعرهم وغليانهم الداخلي، وذلك ضمن مساحة ضيقة للأداء تأسر طاقة الممثل أكثر مما تضيف إلى مفرداته غنىً ما، خاصةً مع تكرارات الحركة على الخشبة، بين صعود الدرج وهبوطه، نقل الكراسي إلى يمين الخشبة ثم يسارها، الدوران في المحيط وتعليق الوشاحات الملونة ثم إزالتها، بحيث تم الانتقاص من أهمية الدراما الكامنة في الحركة، وجعلها بمكان من الأماكن كاريكاتيرية، فيها شيء من المبالغة لكنها فاقدة للأثر، وخاصةً مع شخصية سامح والخيار الفانتازي لها. صحيح أنه تم ضمن العرض تبرير ذلك، عبر إيضاح أن سامح ما زال أسير الطفل بداخله، وأن تعلُّقه المرضي بالمال ناجم عن حادثة خاصة حصلت معه عندما كان في السابعة من عمره، فإن ذلك لم يكن كافياً لإقناعنا بضرورة التنويع في أداء الممثلين بين الواقعي والفانتازي، بل على العكس في حال تم تحقيق الوحدة العضوية للأداء الواقعي، ربما كان الأثر سيكون بليغاً أكثر. بمعنى أن تظهر أعراض المرض النفسي لسامح من الداخل وليس على صعيد الأداء الخارجي فقط، وأن تتواشج مآزقه الروحية والخلل السيكوباتي الذي يعاني منه مع مثيلها عند هالة، وبهذه الحالة لن تكون هناك حاجة لتبرير سلوكيات الشخصية وأقوالها بطريقة مباشرة.

التضمين سيكون منطقياً أكثر من الإيضاح الزائد، وسيؤدي المعنى بطريقة أبلغ. ففي المسرح الأفعال دائماً أقوى من الأقوال، والإيحاء أجمل من المباشرة، لأن عكس ذلك كان أشبه بقطع "خيط أريان" والتوهان في دهاليز الأسلوبية، في حين أن ديكور العرض الذي صممه محمد زهيري، حافظ على إيحائيته. إذ اكتفى بستائر متدلية على الجدران وكنبة ثقيلة لشخص واحد، مع بعض الكراسي وطاولة صغيرة، ودرج يفضي إلى الأعلى، وهو ما ساعد المخرج في تسخير دلالات المستويات المختلفة للعيش، وأيضاً بين مقدمة الخشبة وعمقها للإشارة إلى الداخل والخارج، بالتكافل مع إضاءة، إياد العساودة، التي جاءت متوائمة مع مفهومي الإظهار والإخفاء، والوضوح والغموض، ولتكون الموسيقى المرافقة غنية بدلالاتها في بعض الأحيان مثل لحن "اليوم والأبدية"، إلى جانب الأهزوجة التي غنتها صبا، بينما جاءت المقطوعات الأخرى غريبة بعض الشيء، لكن يمكن تبريرها مع مزاج هالة المتقلب في ظل حيرتها وعدم قدرتها على اتخاذ القرار الصائب بالتحرر من ربقة أخيها المُتلوِّن والذي وصفته بـ"الحردون".

عرض "ساعة واحدة فقط" هو محاولة لترجمة جانب من الواقع السوري مسرحياً، من دون الاعتماد على نصوص أجنبية، بل بالاتكاء على نص محلي يتمحور حول موضوعات الحرية والانعتاق من الأسر، وضرورة الشفاء من الأمراض النفسية والاجتماعية، والتخلص من أصحابها الذين يتشفُّون بالآخرين، ويصبون جام عقدهم عليهم بمساعدة مجتمع مريض يدافع عن الخطأ ويعزز مكانة المُخطئ وجبروت الظالم، لأنه في تلك الحالة فقط سيبقى "خيط أريان" دليلاً واضحاً للخروج من العتمة وتجاوز الخوف.