الحبُّ الجُّبراني *

وفق جبران، المسافة ضرورية كي ينمو الحُبُّ ويخضرَّ ويزهر ويتفتّح على شجرة الحياة الوارفة. أما إذا تقلّصت المسافة وانتفت يصبح الحُبُّ نوعاً من العبودية للأنا المتورِّمة المتضخّمة.

  • الحبُّ الجُّبراني *
    الحبُّ الجُّبراني *

الحديث عن الحب في  صيغته الجبرانيّة يرتدي حلّة إنسانية شاملة استناداً إلى شمولية الفهم الجبراني للحبِّ الذي لا يقتصر عنده على علاقة عاطفية بين طرفين، بل يغدو حباً للحياة وصانعها، وللإنسان المطلق، أي الإنسان في معزل عن عرقه ولونه وعقيدته وجنسيته، وعن كلِّ الصفات التي تضع الكائن البشريَّ ضمن إطار محدّد يعيق انطلاقته نحو المدى الكونيِّ الشاسع الذي يتماهى الإنسانُ معه وفقاً لمقولة الإمام علي بن أبي طالب: "وتَحسَبُ أنَّكَ جِرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ"، أو وفقاً للمفهوم المسيحيِّ في النظرة إلى الإنسانِ باعتباره على صورةِ الله ومثاله.

كما أنّ الحبَّ الجبرانيَّ، إذا جاز هذا القول، يرتدي، في كثير من الأحيان، حلّة روحانية ترتقي بالجسد ورغباته إلى مصاف الفعل المقدّس. كيف لا، ومن صُلب العلاقة الجسدية تولد الحياة وتتشكّل أجنّةُ الكائنات. وما يميز الحُبَّ لدى جبران أنه ينزّه الإنسان عن كونه مجرّد كائن غرائزيٍّ تقوده حاجاته المادية في معزل عن نزوعه الروحيِّ إلى السموِّ والارتقاء إلى مصاف الآلهة والأنبياء.

وانطلاقاً من مقولته الشهيرة "لا تقلْ إن الله في قلبي، بل قلْ أنا في قلب الله" نستطيع إدراك المعنى العميق الذي حاول جبران من خلاله أن يسبر أغوار تلك العلاقة بين المخلوق وخالقه. إذ لا يعقل بحسب المقولة الجبرانية أن يكون الكُلُّ في الجزء، بل الأصحّ أن يكون الجزءُ في الكُلّ. بهذا المعنى نفهم أننا جميعاً أجزاءٌ في القلب الإلهيِّ المتسع للكون بأسره. أما أن يكون الله في قلوبنا بالمعنى الإيماني والديني فهذا بحث آخر.

أما الرؤية الجبرانية إلى الحُبِّ بين عاشقَين أو بين شريكَين فهي عند جبران تجعله أسمى من أن يتحوّل إلى شكل من أشكال المِلكية أو العبودية أو طُغيان طرف على آخر. فـ "نبيُّ" جبران يدعو إلى فسحات من الحرية والهواء بين الشريكين أو الزوجين بحيث يستطيع كلٌّ منهما أن يتنفّس حريته التي وُهبتْ له منذ أول شهقة حتى آخر زفير، وهو القائلُ: "قد ولدتم معاً، وستظلون معاً إلى الأبد. وستكونون معاً عندما تبدِّدُ أيامَكم أجنحةُ الموتِ البيضاء. أحِبوا بعضَكم بعضاً، ولكن لا تقيّدوا المحبةَ بالقيود. قِفوا معاً ولكن لا يقرب أحدُكُم من الآخر كثيراً: لأن عمودَيْ الهيكلِ يقفانِ منفصلَين، والسنديانةَ والسروةَ لا تنمو الواحدةُ منهما في ظل رفيقتها". 

إذاً، وفق جبران، المسافة ضرورية كي ينمو الحُبُّ ويخضرَّ ويزهر ويتفتّح على شجرة الحياة الوارفة. أما إذا تقلّصت المسافة وانتفت يصبح الحُبُّ نوعاً من العبودية للأنا المتورِّمة المتضخّمة، وهذا النوع من الأورام الخبيثة كفيلٌ بالقضاء على العلاقة بين الثنائي أياً كانت صفتهما. 

وإذ ينزِّه نبيُّ جبران المصطفى المحبة أن تكون قيداً أو منَّةً، أو نوعاً من التبادل النفعيِّ الأشبه بعلاقة بين تاجرَين يؤكد أن "المحبةَ لا تُعطي إلا نفسَها، ولا تأخذُ إلا من نفسِها. المحبةُ لا تملكُ شيئاً، ولا تريدُ أن يملكَها أحدٌ، لأن المحبةَ مكتفيةٌ بالمحبة". وهل أسمى من أن تكون المحبة مكتفيةً بذاتِها، لا تطلبُ جزاءً ولا شكوراً، ولو عشنا المحبة والحُبَّ على هذا النحو النبيل لَنجَوْنا من شرورٍ كثيرة. لأن المحبةَ متى طلبت أجراً أو ثمناً انتفتْ عنها صفتُها، وصارت ضرباً من ضروبِ التبادل النفعيِّ الذي سلفت الإشارة إليه.

ما يؤسفنا في مئويةِ نبيِّ جبران أن نحيا زمناً يغيبُ فيه وعنه الأنبياء والصدِّيقون والفلاسفةُ والمفكّرون، ويتقدّم الصفوفَ البُلهاءُ والحمقى. إنه زمن يتراجع فيه الحُبُّ وتتقدّم فيه الحرب، وتسودُ فيه الأحقاد والكراهية وشرائع الأقوياء ولغة الحديد والنار، لكن ما يعزينا أن نبيَّ جبران لا يزال حاضراً فينا وبيننا بعد مرور قرن كامل على رحيل سفينته عن أورفليس. 

ونحن لا نزال، في الوقت عينه، ننتظر عودته، إن لم يكن في زمننا هذا، ففي زمن أولادنا الذين هم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، الحياة التي تستحق الحياة، ويستحق أبناؤها أن يعيشوها بالحُبّ والحرية والعدالة والسلام. فـ "بالعمل النافعِ تفتحون قلوبَكم بالحقيقةِ لمحبةِ الحياة. لأن من أحبَّ الحياةَ بالعملِ النافعِ تفتحُ له الحياةُ أعماقَها، وتُدنيه من أبعدِ أسرارِها".

————

(*) لمناسبة مرور مئة عام على صدور كتاب "النبي" لجبران خليل جبران